العدول فـي القرآن الكريم وأهم دلالاته البلاغية والتربوية
.. وكانت العرب تحرص على ذلك كل الحرص حتى في الجاهلية، حيث ورد عنهم ما رواه شعرًا الشنفري الذي وصف امرأته بالكرم، والرقي في أسلوب كرمها؛ حيث كانت تنتظر حتى يغطي الليل صفحة السماء، وتقل الخطوات من الناس، وينعدم خروجهم من بيوتهم، فتذهب إلى فقيرات قومها، وجيرانها؛ لتعطيهم تلك الصدقات، و تفيض عليهم بكل ما يقتاتون منه، ويسدون به رمقهم، ويضعونه في حاجاتهم، ومؤنة أولادهم، وكذلك قال العرب في كلماتهم المأثورة:(أجود الناس من جاد من قلة، وصان وجه السائل عن المذلة(، وفي الحديث الشريف:(من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، والله ينظر بعين الرحمة إلى كل بيت فيه يتيم يكرم، و في الحديث الشريف: “من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة)، وكان الصحابة والسلف الصالح-رضي الله عنهم- يحضرون، ويأتون في بيوتهم بما يطلبه جيرانهم الفقراء، فإذا احتاجوا إليه منهم، وجدوه عندهم، وكان الواحد من الصحابة يكون على أخيه دين، ويعرف، فيسارع في سداده، وعندما يكتمل الدين مع المدين نفسه يذهب إلى الدائن؛ ليدفع دينه، فيقول:” جاء أحد من الناس، وسدده من فترة”، فيسأل عنه ليرد إليه ما دفعه، فلا يعرفه، ويفتخر الزمان بوجود أولئك الكرام الذين رباهم الرسول (عليه الصلاة والسلام)، حتى امتدح الله تعالى الصحابة بإيثار بعضهم بعضا فقال في حق الأنصار الكرام قوله الشريف في سورة الحشر:(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
فالإيثار طبعهم، والكرم متأصل فيهم، وكان العطاء أحب إليهم من الأخذ، وكانوا ـ على عادتهم ـ لا يريقون ماء وجه أحد، وقابلهم المهاجرون بنبل أكبر، كان الواحد من المهاجرين يقول له أخوه الأنصاري: هذان بيتان لي، اختر أيَّهما شئتَ أعطِهِ إياك، ولي زوجتان، تخير أجملهن، أطلقْها لك، فإذا انتهت عدتُها فتزوجْها، فيرد المهاجريُّ بنبلٍ أكبرَ قائلًا: بارك الله لك في دارك، وأهلك، ولكنْ دُلَّنِي على السوق، فيذهب، ويبيع، ويشتري، ويكسب، ويحصِّن نفسه بالزواج، وينهض بمطالبه، ومطالب أولاده، ويطالعني، ويحضرني هنا نموذجُ سـيدِنا عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ الذي كان مثالا للعفة، والعمل، والاجتهاد، والسعي، حيث جاء إلى الرسول الكريم ذات يوم، وهو من المهاجرين الذين تركوا كل ثرواتهم، وممتلكاتهم، وبيوتهم في مكة، وهاجروا إلى الله ورسوله، ورحلوا إلى المدينة المنورة، جاءه، وهو يرتدي حُلَّةً سِيَرَاءَ، وعليه أثرُ صُفرة، أو صَفوة، فيحادثه الرسول سائلًا، ومبارِكًا هندامَه، وملبسَه الجميل، والجديدَ، ويقول:(مهيم، يا عبد الرحمن!)، وهي كلمة استحسان وتعجب، يسأله مستحسنًا شكله، وما به من نعمة، ومتسائلًا عن سر ذلك، فيرد عليه سيدنا عبد الرحمن بن عوف قائلًا: تزوجت يا رسول الله، فيقول له الرسول الكريم: كم سُقْتَ لها من الذهب؟، فيقول: نواة من ذهب يا رسول الله، يعني شيئًا طيبًا، وكبيرًا، فيرد الرسول الكريم عليه بقوله: إذن، أولِمْ، ولو بشاة، ومات سيدنا عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ وهم لا يعرفون حجم تركته، وكم بلغت؟!، وذلك لكثرتها، وتشعُّبها، وتنوُّعها، وانتشارها في كل مكان، ما بين أراضٍ، وعقارات، ودكاكين، وأمور أخرى كثيرة ومتعددة.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية