الأربعاء 13 أغسطس 2025 م - 19 صفر 1447 هـ
أخبار عاجلة

أنت قارئ قاسٍ «2ـ2»

أنت قارئ قاسٍ «2ـ2»
الثلاثاء - 12 أغسطس 2025 01:07 م

خليفة بن سيف الحوسني

150

ولهذا يا صاحبي، لا تكن قاسيًا على نفسك إذ وصفتني بالقسوة، فإن الذي يقرأ وهو صامت، مثل الذي يرى النار تشتعل في سفح جبل المعرفة، ثم ينصرف دون أن يُنذر أهل الوادي، ولو لم أكن قارئًا يزن الكلمة بميزان الجمال، ويعرضها على لوح الضمير، لكنت ممن يزيدون الظلمة، لا ممن يشعلون قناديلها، إننا يا رفيقي لسنا في عصر العقاد ولا الرافعي، ولا نتفيّأ ظلال الصالونات الأدبية العامرة بأفذاذ الأدب والفكر، بل نحن في زمنٍ صار فيه الكاتب مهووسًا بعدد المتابعين، والناشر يضع الغلاف قبل أن يقرأ المسودة، والنص يُقاس بعدد مرات التحميل، لا عمق الشعور ووهج المعنى.

فهل يحق للقارئ، في هذا الزمن، أن يرضى باليسير؟ وهل من المحبة أن يُربت على نص أجوف؟ ألا تعلم أن المعرفة الحقة لا تُهدى على طبقٍ من المجاملات؟ بل تُنال بالمجاهدة، وبالجرأة على السؤال، وبالقدرة على التمييز بين بريق الذهب، وطلاء النحاس؟!

لكن ما بين القسوة والحب شعرة، وأنا واللهِ ما كنت إلا محبًا، ناصحًا، أغار على الكتاب كما يغار العاشق على حبيبته من خفوت الوهج، ولو كنت أرجو شيئًا من هذه القسوة، فهو أن يستيقظ من كان يكتب وهو نائم، وأن يتأنّى من كان يُسرّع ليلحق بالركب، وأن يُراجع من ظن أن القارئ آلة بلا ذائقة، أو تابع بلا رأي.

وإليك، وإلى كل محب للمعرفة، أقولها لا همسًا، بل جهارًا: لا تيأسوا من هذا الزمن، فكل عصر فيه نُبلاؤه، وكتّابه الحقيقيون، ولو قلّوا، وما دام في هذه الأرض قرّاءٌ لا يُسايرون، فستظل الكلمة محفوظة من الابتذال، والكتاب نبيلاً رغم ما يُساق إليه، وأنت ومن على شاكلتك، أولى الناس بأن يكتبوا، وأن يقرأوا، وأن يقولوا للرديء: لا، وللجميل: نعم، وللمتردد: تشجّع، فالمعرفة لا تألف المتقاعسين.

إنك إذ تسألني عن القسوة، تكشف عن قلبك الحي، وروحك المتّقدة، وأبشّرك: أن القارئ الذي يتأمل، ويقارن، ويسائل، ويعاتب، هو وحده القارئ الذي تُصنع من ملاحظاته أعمدة النهضة، وهو الذي تُكتَب من أجل عينيه النصوص التي لا تموت، فامضِ يا صديقي على طريقك، واقرأ بضميرك لا بعين الناس، ولا تخف من أن تُتَّهم بالقسوة، فإنها عند أهل الحق بصيرة، ولا تَهِن، فإن كل نصٍّ عظيم، وُلد أولًا من قارئٍ لم يرضَ بالقليل.

ومن يدري؟ لعل من يسمعنا الآن ينهض ليكتب ما يُدهشنا، أو ليقرأ ما يُحرّك فينا جذوةً خفتت، أو ليقول لنا ذات يوم: «لقد كنتَ قارئًا قاسيًا، فأيقظت فيّ حبًّا للمعرفة لا يموت»، وذاك والله أجمل الجزاء، ولستُ أدري، أيليق بنا بعد هذا البيان أن نقول إن القارئ القاسي مذنب، أم هو - في ضوء ما رأينا - صاحب رسالة؟ ذلك أن القراءة الحقّة ليست تسلية عابرة ولا لهوًا فكريًا يُبتغى به الهروب من الواقع، وإنما هي كما قال فقهاء الفكر، صورة من صور الفعل العقلي، وهي في عمقها الأصيل نوع من الاجتهاد، لا يبتغيه القارئ لنفسه فقط، بل ينهض به وفاءً للحقيقة، وإنصافًا للفكر، واستبقاءً لقيمة الإنسان في عالم تهاوت فيه القيم وسقطت فيه المعايير.

وليس من طبيعة القارئ المجد، أن يغضي عن الزيف، أو أن يهادن السطحية، أو أن يطرب للغثاء المكرر في حُلل براقة من زخرف القول، بل هو وإن قسى، إنما يفعل ذلك لأن ضميره لا يُطيق الصمت، ولأن عقله لا يرضى بالخمول، ولأن قلبه لا يُؤمن بغير الصدق الجمالي، والعمق الفكري، والخلق الفني الرفيع، والقارئ في تصوره الأسمى، شريكٌ في صناعة المعرفة، بل قاضٍ يحكم على النص، لا خصمًا له، فإن صمت عن الرداءة، رضي بتردّي الذائقة، وإن سكت عن الضعف، ساهم في انتشاره، فالسكوت في مقام الفكر جريمة، وإن لبست ثوب التواضع، وإن تغلفت بلبوس المجاملة.

وعليه، فإن القارئ القاسي، هو القارئ العادل، في زمان باتت فيه العدالة في ميزان الكلمة عملةً نادرة، وإنّ في قسوته كما يقول السنهوري باشا: غيرة على القانون لا عداء للناس، ونزاهة في الحكم لا كراهية في النفس»، فليفهم عنه ما أراد، لا ما توهّمه المتسرعون وما أصدق ما قاله طه حسين: ما أيسر أن تقرأ، وما أصعب أن تفهم، وما أشقّ أن تكون في قراءتك حرًّا مستقلاً، لا تجرّك العبارات، ولا تخدعك الزينة، ولا تسحرُك الشهرة.

خليفة بن سيف الحوسني 

 [email protected]