الخميس 14 أغسطس 2025 م - 20 صفر 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : الابتكار الزراعي .. خطوة نحو الأمن الغذائي

الثلاثاء - 12 أغسطس 2025 06:30 م

رأي الوطن

170

حوَّلتِ التقنيَّات الجديدة أُسلوب المزارع العُماني في التَّعامل مع أرضه، فلم يَعُدْ ينتظر المطر وحده أو يكتفي بتجربة الأجداد، لقد صار يستخدم أجهزة استشعار تقرأ نبض التربة، وأنظمة ذكيَّة تضبط الريَّ على حاجتها، وزراعة عموديَّة تزرع في الفراغات بدل التوسُّع في مساحات تستهلك الماء، فإدخال الذَّكاء الاصطناعي لم يأتِ لزخرفة المشهد، وإنَّما لأنَّ المناخ أصبح يفرض قرارات أكثر دقَّة وسرعة، ففي ظلِّ تقلُّبات الأسواق، صار الأمن الغذائي ملفًّا سياديًّا بامتياز، ورؤية «عُمان 2040» أعطته موقعًا مركزيًّا ضِمن أولويَّاتها، فالتَّغيير محسوس في الحقول، حيثُ كُلُّ قرار زراعي محسوب على أساس الكلفة والعائد، وكُلُّ موسم إنتاج مرهون بالقدرة على إدارة الموارد المحدودة بعقليَّة جديدة، هذه الأرض تعرف أنَّ الخطأ في الحساب لم يَعُدْ مقبولًا؛ لأنَّ الفشل في موسم واحد قد يعني سنوات من الخسائر، وهنا يصبح الابتكار الزراعي مسألة بقاء تفرض نَفْسها على الجميع من المزرعة الصَّغيرة حتَّى الحقول الواسعة.

وفي نَفْس السِّياق تتحرك وزارة الثروة الزراعيَّة والسمكيَّة وموارد المياه بأُسلوب يختلف عن النَّمط الإداري البطيء الَّذي اعتدناه في القِطاعات الحكوميَّة، حيثُ تمنح تمويلًا لمشروعات لم تختبر بعد، وتشجِّع المزارع الَّذي يغامر بفكرة جديدة، وتفتح مختبرات الجامعات لابتكارات يُمكِن أن تنتقلَ مباشرة إلى أرض الواقع، والإعفاءات الضريبيَّة وتخفيض الرسوم الجمركيَّة على المعدَّات المتقدمة، الَّتي جعلت الزراعة الحديثة أكثر قربًا من المزارعين، بدل أن تبقى حكرًا على شركات كبرى، فهناك تسهيلات لدخول تقنيَّات الزراعة المائيَّة، وأنظمة الريِّ الذَّكي، ومشروعات الطَّاقة الشمسيَّة الَّتي تخفض الكلفة التشغيليَّة. والأهمُّ أنَّ البيروقراطيَّة الَّتي كانت تعطِّل أيَّ مشروع جريء بدأت تتراجع؛ لأنَّ إدراك قِيمة الوقت أصبح جزءًا من السِّياسات. والمثير أنَّ هذه البيئة لم تفتح الطريق فقط أمام المشاريع الكبرى، لكنَّها شجَّعتْ حتَّى المزارعين أصحاب المساحات الصغيرة على التجربة، بما جعل الميدان أكثر تنوعًا وأغنى بالحلول الَّتي تأتي من قاع السلَّم الإنتاجي لا من قمَّته فقط.

ولعلَّ قصَّة نبات الحرمل تقدِّم درسًا عن قِيمة النَّظر تحت أقدامنا قَبل البحث في رفوف الأسواق العالميَّة، والَّذي اختبرت (هذا النَّبات المحلِّي) باحثتان من جامعة السُّلطان قابوس، فاكتشفتا أنَّه قادر على وقف فطريَّات تدمِّر المحاصيل، وهو ما يعني بديلًا طبيعيًّا للمبيدات الكيماويَّة، يحافظ على التربة والمياه ويقلِّل الكلفة على المزارع. فهذه النتيجة تتجاوز حدود البحث الأكاديمي، فهي تكشف أنَّ السِّيادة الغذائيَّة تبدأ من استخدام مواردنا، وأنَّ الحلول ليسَتْ دائمًا مستوردة، إنَّما المُشْكلة هي أنَّ كثيرًا من الأبحاث العربيَّة تبقى حبيسة الأوراق العلميَّة، بَيْنَما الطَّريق الصَّحيح هو تحويلها إلى منتجات قابلة للتَّسويق، تدخل الحقول وتغيِّر طريقة الإنتاج، ولو تمَّ تطوير منتجات مشتقَّة من هذا البحث وتوزيعها محليًّا، فإنَّها ستفتح مجالًا لصناعة جديدة قائمة على المكافحة الحيويَّة، الأمر هنا يُعنَى بخلق فرصة اقتصاديَّة تدعم الدَّخل المحلِّي، وتمنح المزارع أدوات أقلّ كلفة وأكثر أمانًا.

لقَدِ التقط القِطاع الخاصُّ هذا التَّوَجُّه مبكرًا، ودخل الميدان بأفكار قادرة على تغيير شكل الزراعة، فشركة «AZDARA» أطلقتْ عبوة تحتوي مبيدًا عضويًّا وسمادًا في الوقت نَفْسه، تتحلل في التربة فتغذِّيها بدل أنْ تلوِّثَها. في عبري ابتكار (الحراثة الذكيَّة) يقرأ التربة لحظة بلحظة، يقيس رطوبتها وملوحتها، ويزيل الشَّوائب والحصى في خطوة واحدة، ما يجعل عمليَّة التَّجهيز أكثر كفاءة، فهذه أدوات ترفع الإنتاج وتحمي البيئة وتقلِّل الكلفة على المزارع، وعِندَما تتحول هذه النماذج إلى جزء من روتين العمل اليومي، وتجد الدَّعم المستمر، يصبح الأمن الغذائي واقعًا لا شعارًا، كما أنَّ انتشار هذه النماذج بَيْنَ الزَّارعِين الصِّغار قَبل الكبار يَضْمن أنَّ التحوُّل لا يظلُّ محصورًا في طبقة محدودة، ويتحول إلى ثقافة عامَّة، ترسِّخ مكانة الابتكار كجزء أساسٍ من منظومة السِّيادة الغذائيَّة للبلاد.