الأربعاء 13 أغسطس 2025 م - 19 صفر 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : استثمار فـي المستقبل وصناعة لمعادلة القوة

الأحد - 10 أغسطس 2025 06:30 م

رأي الوطن

40


في مسار التَّحوُّل الاقتصادي الَّذي تخوضه سلطنة عُمان، يبرز قِطاع الصِّناعات التَّحويليَّة كأحَد الأعمدة الَّتي تُعِيد رسم خريطة الإنتاج الوطني. فالمسألة بقدر ما هي مرتبطة بزيادة خطوط الإنتاج وتحسين الكميَّات، ترتبط أيضًا بتغيير بنية الاقتصاد نَفْسه، عَبْرَ التَّحرُّر التَّدريجي من الاعتماد على النِّفط، وبناء قاعدة صناعيَّة قادرة على توليد القِيمة المُضافة داخليًّا، هذه الرُّؤية تتجسد في أهداف الاستراتيجيَّة الصِّناعيَّة 2040، الَّتي تضع أرقامًا طموحة مثل رفع مساهمة القِطاع إلى (11.6) مليار ريال، واستقطاب استثمارات تصل إلى (40) مليار ريال، لكنَّها لا تتعامل مع هذه الأرقام كغاية نهائيَّة، لكن كأداة لتوسيع مساحة الاكتفاء الذَّاتي، وتعزيز قدرة الدَّولة على مواجهة تقلُّبات الأسواق العالَميَّة، فما يحدُث اليوم في هذا القِطاع يعكس وعيًّا استراتيجيًّا بأنَّ أمْنَ الدَّولة الاقتصادي يبدأ من المصنع، وأنَّ كُلَّ مشروع صناعي ناجح هو جدار جديد في حماية الاستقرار الوطني على المدَى البعيد.

تؤكِّد المؤشِّرات الاقتصاديَّة أنَّ التَّحوُّل الصِّناعي لم يَعُدْ شعارًا، أو خطَّة على الورق، لقَدْ أصبح واقعًا تتحرك أرقامه بثبات، ففي عام 2024 حقَّق القِطاع نُموًّا بلغ (7.45%) لِيصلَ إلى أكثر من (3.6) مليار ريال بالأسعار الثَّابتة، وهو ما يعادل (9.4%) من النَّاتج المحلِّي، ثمَّ واصلَ زخمه في الرُّبع الأوَّل من 2025 بنسبة (5.4%) مقارنةً بالعام السَّابق، لِيعكسَ فاعليَّة بيئة الاستثمار المحليَّة، واستقرار السِّياسات الاقتصاديَّة، وعلى مستوى التِّجارة الخارجيَّة، سجَّلتِ الصَّادرات غير النفطيَّة نُموًّا بنسبة (7.2%) خلال الأشْهُر الخمسة الأُولى من 2025، لِتبلغَ (2.7) مليار ريال، مع وصول المنتَجات العُمانيَّة إلى أسواق حيويَّة، مثل الإمارات والسعوديَّة والهند. هذه الأرقام ليسَتْ تؤكِّد على دخول الصِّناعة العُمانيَّة مرحلة تنافسيَّة في الإقليم، ما يُعزِّز قدرتها على مواجهة ضغوط الأسواق الكبرى، ويفتح أمامها فرصًا أوسع للتَّوَسُّع في أسواق جديدة.

إنَّ القِيمة الحقيقيَّة لقِطاع الصِّناعات التحويليَّة لا تقتصر على الأرقام فقط، لكنَّها تمتدُّ إلى الأثر المباشر في المُجتمع من خلال التَّوظيف وتمكين الكفاءات الوطنيَّة، فوجود أكثر من (57) ألف مواطن في وظائف صناعيَّة يعكس قدرة هذا القِطاع على استيعاب القوى العاملة الوطنيَّة، وتزويدها بالمهارات اللازمة للمنافسة. ويأتي برنامج (تصنيع) كإحدى أهمِّ الأدوات لرفعِ نسبة المشتريات المحليَّة في المشاريع، ما يُعزِّز سلاسل التَّوريد الوطنيَّة ويُقوِّي المؤسَّسات الصَّغيرة والمُتَوَسِّطة، هذا الرَّبط بَيْنَ المحتوى المحلِّي والتَّنمية الصِّناعيَّة، يَضْمن أنَّ مكاسب القِطاع لا تبقَى حبيسة المصانع، لكنَّ نجاحاتها تنعكس على الاقتصاد الوطني في صوَر دخل وفرص عمل وخبرات متراكمة، هكذا يتحول المصنع من مجرَّد منشأة إنتاج إلى منصَّة لبناء قدرات بَشَريَّة واقتصاديَّة تُحصِّن الدَّولة من صدمات الخارج.

أمَّا على صعيد الابتكار والتقنيَّات المتقدِّمة، فإنَّ ما تحقَّق في النِّصف الأوَّل من 2025، يعكس تحرُّكًا مدروسًا نَحْوَ الثَّورة الصِّناعيَّة الرَّابعة، خصوصًا مع تدشين مركز الأتمتة المتقدِّمة، وتقييم المصانع وفْقَ مؤشِّر الجاهزيَّة الصِّناعيَّة الذكيَّة، ومنح شهادات هُوِيَّة المنتج الوطني، فكُلُّها خطوات تعكس إصرار سلطنة عُمان على وضع التكنولوجيا في قلبِ العمليَّة الإنتاجيَّة، كذلك الشَّراكات الدوليَّة مع (يونيدو) و(جويك)، تضيف بُعدًا عالَميًّا لهذا التَّوَجُّه، من خلال نقلِ المعرفة وتوسيع قاعدة الخبرة، فهذه المسارات ـ بجانب تحسين كفاءة الإنتاج ـ تصنع صورة جديدة للصِّناعة الوطنيَّة كمنافس عالَمي، قادر على الجمع بَيْنَ الجودة والتقنيَّة والابتكار، وبقدر ما تحمل هذه التَّطوُّرات من فرص اقتصاديَّة، فإنَّها تحمل أيضًا رسالة بأنَّ المستقبل الصِّناعي يتحرك بخطواتٍ عمليَّة تضع الدَّولة في موقع قوَّة في خريطة الاقتصاد العالَمي.