«العدول الحرفـي ودوره الدلالي فـي القرآن الكريم «حرف الثاء نموذجا»» «1»
تحدثنا في لقاءات سابقة عن مفهوم العدول، وأنه يعني المخالفة لمقتضى الظاهر، والانحراف باللفظة إلى غيرها، والمجيء بها على خلاف مقتضى القياس، والقاعدة؛ لأجل حكم بالغة، ومعان نبيلة رائعة، ودلالات عالية ماتعة، لا ينهض لها ورود اللفظة على القياس، ومجيئها وفق الظاهر من السياق، والإتيان على وفاق، وسنن القاعدة.
وهنا أود أن أتحدث عن لون آخر من ألوان العدول، وهو العدول من حرف إلى حرف، فيما يعرف بذيل الآيات، ونهاياتها، وأنه لو كان القرآن الكريم يحرص على السجعة ـ كما يقول بعض النحويين والبلاغيين ـ لحافظ على النهايات في كل الكتاب العزيز، ولكنه لم يفعل ذلك، بل كان يخالفه، ويأتي بالتذييل في نهاية الآيات وفق السياق، وتبعًا للدلالة الحاصلة، والمعنى الدائر، والحكمة المقصودة، والقيمة المرصودة.
ونأخذ مثالًا على ذلك، سورة الضحى، يقول الله تعالى فيها:(وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، ففي قوله تعالى:(فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث)نرى كل آية بدءا من الآية التاسعة حتى العاشرة تنتهي بحرف الراء، ولكن الآية الأخيرة عُدِلَ فيها من حرف الراء إلى حرف الثاء، وحرف الراء هو حرف تكرار، وتفخيم، وخصوصًا عند السكت، والتسكين، بينما حرف الثاء هو حرفٌ هادئ، ولا يكاد يُسمَع، فما العلة وراء هذا العدول الحرفي، وذاك الانحراف من المجهور المكرر إلى الساكن المهموس؟، وما الذي يقف وراء ذلك الانحراف، والمخالفة من معان، ودلالات وقيم، وحكم، وكمالات؟.
لعله من بين ما يمكن أن يُسْتَشَفَّ من كتب التفاسير وأهل البلاغة أن الحديث عن النعمة، والكلام عنها، وعن النفقة، والصدقة، ينبغي أن يكون خافض النبرة، خافت الصوت، غيرَ جهوري، ولا غيرَ مسموعٍ، وأنه يجب الحفاظ فيه على حياء المتصدق عليه، الذي يمد يديه لسد حاجته، وفاقته، فيلزمنا أن نحافظ على ماء وجهه، وألا نرفع أصواتنا عند لحظة التصدق عليه، ويكفيه الشعور الذي هو فيه، والإحساس المحوط به من أنه يتصدق عليه، وتمد اليد المعطية إليه، فإن ذلك وحده شعور قاتل، وإحساس دام، مبك، فينبغي أن يكون صامتا، لا عاليا، خافتا ساكنا، لا جهوريا، صاخبا، ومسموعا ممن حوله، وأن الإسلام يحافظ على ماء وجه الآخذ، فنبه المعطي إلى ذلك بهذا الاختيار لحرف الثاء المتصف تجويديًا بالهمس، والصوت الضعيف، حيث تخرج النعمة، والنفقة، والصدقة كخروج حرف الثاء: همسًا، وسكونًا، وكرمًا وحنانًا، ورحمة به، وإيمانًا، حفاظًا على مشاعره، وتقديرًا لأحاسيسه، وإكرامًا لآدميته، وإنسانيته، وأن المعطي يجب أن يتمتع بسمو النفس، وعلو الروح، ونبل العطاء، ودماثة الخلق، ورقة المشاعر، وكمال الإحساس، وأنه يضع نفسه مكان الفقير، ومحل الآخذ، وأن تلك اللحظة هي من أصعب اللحظات، وأكثرها إيلاما للآخذ، ولكن إذا خرجت بأسلوب راق، ونفس سامية المشاعر، وروح تحترم آدمية الآخذ، لكانت أسمى عطاء، وأرق صفاء.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية