الجمعة 08 أغسطس 2025 م - 14 صفر 1447 هـ

رأي الوطن : حرب إبادة تدار باسم الإغاثة

الأربعاء - 06 أغسطس 2025 06:30 م

رأي الوطن

180

يعيشُ الفلسطينيُّون في غزَّة، منذُ شهور طويلة، تحت حصار دموي غير مسبوق.. فهناك إبادة جماعيَّة تتجسَّد في تفاصيل الحياة اليوميَّة، من القصف المتواصل إلى التَّجويع الممنهج، والتَّهجير القسري، الَّذي حوَّل القِطاع إلى مساحة ضيِّقة مكتظَّة بملايين البَشَر، يبحثون عن مأوى ولقمة خبز! ووسط هذا الجحيم ظهرتْ مؤسَّسات تحمل لافتة (العمل الإنساني)، لكنَّها تعمل كجزء من آلة الحرب، ألا وهي مراكز توزيع المساعدات الَّتي تحوَّلتْ إلى ساحات قتل جماعي، ومؤسَّسة تُسمَّى (غزَّة الإنسانيَّة) أصبحتْ أداة في يَدِ قوَّة الاحتلال لإدارة التَّجويع، حيثُ يُغتال النَّاس وهم يصطفُّون طلبًا للطَّعام، المأساة لم تَعُدْ قاصرةً على القنابل والرَّصاص، لكنَّها امتدَّتْ إلى حصار يمنع الماء والدواء، ويحوِّل المساعدات نَفْسَها إلى سلاح يحصد الأرواح ببطء.. هذه الجريمة المزدوجة تكشف عن مرحلة جديدة من الحروب، حيثُ تتحول الإغاثة من رمز للإنقاذ إلى وسيلة للإبادة، وفيما يُدفن الأطفال جوعى تحت أنقاض بيوتهم، يكتفي العالَم بمراقبة الدِّماء دُونَ أنْ يحرِّكَ ساكنًا. يأتي هذا في الوقت الَّذي يُنادي فيه خبراء الأُمم المُتَّحدة بضرورة إدخال المساعدات دُونَ قيود، بَيْنَما يكتفي المُجتمع الدّولي ببيانات شجب، واجتماعات باردة لا تُغيِّر شيئًا من واقع الدَّم والجوع! فالولايات المُتَّحدة تمنح قوَّة الاحتلال غطاءً دبلوماسيًّا واقتصاديًّا، وتذهب أبعدَ من ذلك عَبْرَ تصريحات رئيس مجلس النوَّاب الأميركي، الَّتي زعم فيها بوجود (حقّ تاريخيّ) للكيان الصُّهيوني في الضفَّة الغربيَّة. إنَّ هذه التَّصريحات هي إعلانٌ واضح عن دعم خطَّة الضَّمِّ والتَّوَسُّع الاستيطاني، وتشجيع لسياسة التَّطهير العِرقي الَّتي بدأتْ في غزَّة وتمتدُّ للضفَّة، فالتَّحالف الأميركي ـ الصُّهيوني ـ بجانب القوَّة العسكريَّة ـ يُخطِّط بعنايةٍ لصناعة صورة زائفة للمساعدات الإنسانيَّة، تُدار لتقنينِ الموت وتجويع المَدَنيِّين، وحرمانهم من أبسطِ حقوق الحياة، هكذا تتحول المساعدات إلى سلاح سياسي، ومعسكر اعتقال مفتوح تُحاصره بيانات الشَّجب الدوليَّة، فيما مجلس الأمن والاتِّحاد الأوروبي عاجزان، لِتبقَى الجرائم مستمرَّة دُونَ رادع حقيقي.

لا يُمكِن مواجهة هذا الواقع بالصَّمت، هناك حاجة ملحَّة لوضعِ استراتيجيَّة شاملة، تستهدف كسر منظومة الإبادة من جذورها، يَجِبُ أنْ تتحركَ الجبهات القانونيَّة بقوَّة؛ لِتَوثيقِ الجرائم وفضح المؤسَّسات الَّتي تُستخدَم غطاءً للقتل تحت مُسمَّى الإغاثة، ورفع دعاوى أمام المحاكم الدوليَّة ضدَّ كُلِّ مَن شارك في صناعة الموت، ومن الضَّروري بناء تحالف عربي ـ دولي يوفِّر مظلَّة سياسيَّة واقتصاديَّة تحمي الفلسطيني في أرضه، ويُفشل مُخطَّط التَّهجير القسري، والتَّفريغ السكَّاني. فإعادة إعمار غزَّة يَجِبُ أنْ تتحولَ إلى مشروع بقاء وكرامة، لا إلى منحة مؤقَّتة مرتبطة بمساومات سياسيَّة، نحن بحاجة إلى مبادرات تنمويَّة حقيقيَّة تدعم البلديَّات وتوفِّر الطَّاقة وتحمي البنية المجتمعيَّة الَّتي يحاول الاحتلال تدميرها.. إنَّ هذه المعركة لن تُحسمَ بالشِّعارات والخُطب، بل بإرادة واضحة، وقرارات مدروسة، وعمل منظَّم يربط بَيْنَ الأرض والإنسان والاقتصاد والسِّيادة؛ ذلك أنَّ المواجهة اليوم أوسع من مواجهة قوَّة احتلال عسكريَّة، إنَّها معركة أخلاقيَّة ضدَّ منظومة دوليَّة تُموِّل القتل وتُسوِّقه وتُعطِيه غطاءً سياسيًّا واقتصاديًّا.

ولعلَّ التَّحوُّلات الأخيرة في أوروبا تفتح كوَّة صغيرة في هذا الجدار الحديدي، فإعلان وزير الماليَّة النرويجي مراجعة استثمارات بلاده في الشَّركات الدَّاعمة للكيان الصُّهيوني خطوة أُولى يَجِبُ أنْ تتحولَ إلى تيَّار أوسع، يشمل فَرْضَ عقوبات اقتصاديَّة شاملة، ومراجعة الاتفاقيَّات التجاريَّة، ووقف تصدير الأسلحة.. عِندَما يُصبح المال أداةَ ضغطٍ على منظومة الاحتلال، تبدأ المعادلة في التَّحوُّل، وهناك نماذج عالَميَّة تُشير إلى نجاعة هذا التَّوَجُّه، حيثُ سبَق وجرَّب العالَم ذلك مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، واليوم يُمكِن تكرار التَّجربة مع قوَّة الاحتلال إذا تكامل الضَّغط الاقتصادي مع الاعترافات السِّياسيَّة المتزايدة بالدَّولة الفلسطينيَّة، ويَجِبُ أنْ تنطلقَ حمَلة دوليَّة لملاحقة الشَّركات والمؤسَّسات المتورِّطة في دعم الجرائم أو تمويل مؤسَّسات الإغاثة الَّتي تُدير الموت، تلك الخطوات وحْدَها قد تفتح الطَّريق أمام الفلسطيني لِيحيا بحُريَّة وكرامة، وتَعُود فكرة الدَّولة المُستقلَّة من حلم بعيد إلى واقع يفرضه صمود الدَّم على سطوة المال والسِّلاح.