السبت 02 أغسطس 2025 م - 8 صفر 1447 هـ

العدول فـي القرآن الكريم وأهم دلالاته البلاغية والتربوية

الأربعاء - 30 يوليو 2025 01:18 م
10


أخي القارئ.. نستكمل معك ما تبقى من هذا الموضوع: .. وهكذا قال المترفون المغرورون لشعيب، وأتباعه باستعلاء، وغلظة، وغضب وجملة:(قالَ الْمَلَأُ.... إلخ) مستأنفة استئنافًا بيانيًا، كأنه قيل: فماذا كان رد قوم شعيب على نصائحه لهم؟ فكان الجواب:(قال الملأ ..).

وقد أكدوا قولهم بالجملة القسمية للمبالغة في إفهامه أنهم مصممون على تنفيذ ما يريدونه منه، ومن أتباعه، ونسبوا الإخراج إليه أولا، وإلى أتباعه ثانيًا؛ للتنبيه على أصالته في ذلك، وأن الذين معه إنما هم تبع له، فإذا ما خرج هو كان خروج غيره أسهل، وجملة:(أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) معطوفة على جملة (لَنُخْرِجَنَّكَ)، وهي ـ أى جملة:(أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) المقصود الأعظم عندهم، فهؤلاء المستكبرون يهمهم في المقام الأول أن يعود من فارق ملتهم، وديانتهم إليها ثانية.

والتعبير بقولهم:(أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) يقتضى أن شعيبًا، ومَنْ معه كانوا على ملتهم، ثم خرجوا منها، وهذا محالٌ بالنسبة لشعيب ـ عليه السلام ـ فإن الأنبياء معصومون ـ حتى قبل النبوة ـ عن ارتكاب الكبائر فضلًا عن الشرك.

وقد أجيب عن ذلك بأن المستكبرين قد قالوا ما قالوا من باب التغليب؛ لأنهم لما رأوا أن أتباعه كانوا من قبل ذلك على ملتهم، ثم فارقوهم، واتبعوا شعيبًا، قالوا لهم: إما أن تخرجوا مع نبيكم الذي اتبعتموه، وإما أن تعودوا إلى ملتنا التي سبق أن كنتم فيها، فأدرجوا شعيبًا معهم في الأمر بالعودة إلى ملتهم من باب تغليبهم عليه هنا، هذا هو الجواب الذي ارتضاه كثير من العلماء، وعلى رأسهم صاحب الكشاف، فقد قال: فإن قلت: كيف خاطبوا شعيبًا ـ عليه السلام ـ بالعود في الكفر في قولهم:(أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) وكيف أجابهم بقوله:(إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها...)، والأنبياء ـ عليهم السلام ـ لا يجوز عليهم من الصغائر إلا ما ليس فيه تنفير، فضلًا عن الكبائر، وفضلًا عن الكفر؟، قلت: قالوا:(لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا)، فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم قالوا:(لَتَعُودُنَّ)، فغلب الجماعة على الواحد، فجعلوهم عائدين جميعًا، إجراء للكلام على حكم التغليب.

وعلى ذلك أجرى شعيب ـ عليه السلام ـ جوابه فقال:(إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها)، وهو يريد عودة قومه، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم، وإن كان بريئًا من ذلك؛ إجراء لكلامه على حكم التغليب، هذا هو الجواب الذي اختاره الزمخشري، وتبعه فيه بعض العلماء. فقد ظهر لنا ـ من خلال العدول من فتح جيم الفعل (لنخرجَنَّكم)، وضم دال الفعل:(لتعودُنَّ) ذلك الفارق الكبير في المعنى بين التهديد الفردي، أو الشخصي لسيدنا شعيب ـ عليه السلام ـ بفتح جيم الفعل(نخرج)، وسوء الأدب بمناداته باسمه، وشناعة التهديد لنبيهم، ثم التهديد الجماعي لجميع مَنْ آمن معه، واعتنقوا دينه القويم بضم دال الفعل (تعودُنَّ)، وقد فسرنا دلالة الضم بمدى اجتهاد سيدنا شعيب ـ عليه السلام ـ وهدايته لعدد كبير من قومه، وهو دليل على نشاطه، وشَغْل كل وقته في هدايتهم بكل ألوان الهداية، وكل سبل الدعوة، وأنه كان لا يتركهم حتى آمنوا بالله، ودخلوا في دينه أفواجا، وكَثُرَ عددُهم، فأخاف ذلك قومَ شعيب حتى لاحقوهم، وهددوهم، وهددوا نبيهم، مع مناقشته إياهم، واتساع صدره لهم، إلا أنهم ظلوا على عنادهم، ورفضهم، وإصرارهم، حتى جاءت إليهم نقمةُ ربهم، وأحاط بهم غضبُه، واجتث شأفتهم، وأخذهم الله بنواميس عدله التي وضعها في كونه الكون لنهاية العصاة، وإنزال العقوبة بهم، وجَعَلَ الله عاقبتهم كؤودا، ونتيجة عصيانهم كبيرة، وصاروا عبرة لمن يعتبر، فجاء الجزاء عاجلا غير آجل:(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ، فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ).

د.جمال عبدالعزيز أحمد 

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية

[email protected]