حينما تموت الإنسانيَّة في القلوب المتحجرة.. ويكفُّ الضَّمير العالَمي عن التَّأنيب.. ويكتفي المُجتمع الدولي بِدَوْر المتفرج على حرب أقلّ ما يقال عَنْها إنَّها قذرة وغير إنسانيَّة وظالمة لا يتضور فيها الأطفال جوعًا فقط، بل يموتون من الجوع.. فقُلْ على الدُّنيا السَّلام.
إنَّ سياسة التَّجويع الممنهجة الَّتي تستخدمها قوَّات الاحتلال الغاشمة كسلاح وأداة حرب لا تقلُّ فتكًا عن القصف والرَّصاص، بل تفوقهما في قدرتها على إيلام الجسد وكسر الإرادة وإخضاع الشُّعوب دُونَ ضجيج فهي تحرمهم من أبسط مُقوِّمات الحياة الغذاء، والماء، والدَّواء.
إنَّ حرب التَّجويع لم تَعُدْ مجرَّد نتيجة جانبيَّة للحصار المفروض منذُ سنوات على قِطاع غزَّة، بل تحوَّلتْ إلى استراتيجيَّة قائمة بذاتها بهدف إخضاع الفلسطينيِّين من خلال قطْع سلاسل الإمداد ومنْع دخول المواد الغذائيَّة الأساسيَّة وتدمير المزارع والمخازن، واستهداف البنية الأساسيَّة اللازمة لإنتاج الطَّعام.. لِيجدَ الفلسطينيون أنْفُسهم بلا مأوى.. بلا غذاء.. بلا ماء.. بلا دواء.
المُخزي أنَّ هذه الجريمة الفظيعة تُمارس في ظلِّ صمتٍ دولي مزرٍ وتحت ذرائع أمنيَّة زائفة يستخدمها العدوُّ لتضليلِ العالَم وإسكات ضميره.. رغم أنَّ استخدام التَّجويع سلاحًا ضدَّ المَدَنيِّين جريمة حرب وفْقَ القانون الدولي الإنساني وخرقًا صريحًا لاتفاقيَّات جنيف.. لكن يقف العالَم عاجزًا عن وقف هذه الجريمة، بل أحيانًا يتواطأ بالصَّمت أو بالتَّبرير.. لِتتحولَ المجاعة مع مرور الوقت من تهديد إلى واقع، وتصبح البطون الخاوية عنوانًا للمأساة المستمرة.
المُحزن أنَّ الأطفال الَّذين يُشكِّلون نصف سكَّان القِطاع تقريبًا هم مَن يدفع ثمَن هذا السِّلاح الظَّالم المُوَجَّه ضدَّ الطُّفولة والبراءة والإنسانيَّة بأجسادهم النَّحيلة ووجوههم الشَّاحبة وبكائهم الصَّامت من الألَم والجوع.. فارتفعتْ معدَّلات سُوء التَّغذية بصورة كبيرة لدرجة أنَّ العظم بدا من تحت الجلد وبدأتِ الأمراض النَّاتجة عن نقص الغذاء والماء تفتك بأجساد الضعفاء.. فيموت البعض بصمتٍ ويعيش آخرون على أمل وجبة مؤجَّلة.. فأكثر من نصف الأطفال في غزَّة يُعانون من سُوء تغذية حادٍّ، وبعضهم يموتون في حضن أُمَّهاتهم ليس بسبب قصف أو رصاص، بل لأنَّ اللَّبن لم يصلْ والطَّبيب لم يستطعِ الدخول والمستشفى بلا كهرباء.
أمَّا الأُمَّهات فإنَّهنَّ يُعانينَ وجعًا مضاعفًا.. فهنَّ يشهدنَ انهيار حياة أبنائهنَّ دُونَ قدرة على فِعل شيء.. وكثير مِنْهنَّ أصبحنَ يخلدنَ إلى النَّوم وهنَّ جائعات من أجْلِ توفير كسرة خبز لأطفالهنَّ في اليوم التَّالي.. لِتتحولَ الأُمومة في غزَّة إلى معركة وجود.
إنَّ حرب التَّجويع ليسَتْ مجرَّد جريمة إنسانيَّة فحسب.. بل وصمة عار في جبين العالَم المتحضر الَّذي يدَّعي حماية حقوق الإنسان ومقياسًا حقيقيًّا لمستوى الإنسانيَّة في هذا العصر.. فمَن يوافق أن يجوّعَ شَعب إنَّما يُشارك في الجريمة بعجزه وسلبيَّته وصمْته.. ومع كُلِّ ذلك فإنَّ الحياة في غزَّة لا تزال تُقاوم لأنَّ الكرامة لا تُقهر بالجوع ولا تُشترى بالخبز المسموم.
إنَّنا في عصرنا هذا.. عصر التكنولوجيا والذَّكاء الاصطناعي الَّذي تسعى فيه الدول جميعها لتحقيق التَّقدُّم والعدالة والكرامة.. تُعِيد لنا مأساة غزَّة عصور الحصار القديمة الَّتي كنَّا نقرأ عَنْها في كتُب التَّاريخ ولكنَّها بصورة أكثر بشاعة؛ لأنَّها ضدَّ شَعب لا يحارب من أجْلِ الحُريَّة فقط، بل من أجْلِ كسرة خبر وشربة ماء وجرعة دواء لطفل يحتضر.
إنَّ العقاب الجماعي الَّذي تمارسه قوَّات الاحتلال الصُّهيوني لا بُدَّ أن ينتهي.. فتجويع الأبرياء فقدان حقيقي للقِيَم الإنسانيَّة الَّتي فقدتْ معناها على الأرض الفلسطينيَّة.. فقد وضعنا الله سبحانه وتعالى أمام اختبار صعب ولكنَّنا فشلنا جميعًا في الدِّفاع عن الكرامة والإنسانيَّة.. فلا يَجِبُ أن نسمح أن يكُونَ الأطفال ثمنًا للصِّراع الَّذي لا ناقة لهم فيه ولا جمل.. لأنَّ الجوعى لا يهددون الأمن.
ورغم كُلِّ ذلك.. يثبت الشَّعب الفلسطيني في غزَّة مرَّة تلو الأخرى أنَّ إرادته عصيَّة على الانكسار.. يتقاسم النَّاس اللُّقمة ويبدعون في إيجاد بدائل رغم النُّدرة ويتمسَّكون بالحياة رغم أنَّ العالَم يدير ظهره لمأساتهم.. فحرب التَّجويع الَّتي تهدف إلى إذلال الإنسان الفلسطيني تقابل يوميًّا بكرامة مرفوعة وعزيمة لا تموت.
لقد آن الأوان لِكَيْ يوقفَ العالَم هذه المأساة البشعة الَّتي تعدَّتْ حدود الإنسانيَّة من مخلوقات لا ترتقي لِتحملَ لقَب «بَشَر» فَهُم لا يملكون أيَّ قدر من الشَّفقة أو الرَّحمة.. وإذا كانتِ الدول تريد أن تمحو عن نَفْسها صفة الشَّريك في الجريمة فلتتَّحد وتأخذ موقفًا جادًّا يوقف العدوَّ الصُّهيوني عِندَ حدِّه وينقذ المستضعفين من براثن الشَّيطان الأعظم.. والفلسطينيون الآن لا يحتاجون إلى دعم معنوي وحلول مؤقتة تؤدي دَوْر المسكِّنات ولكنَّهم بحاجة إلى حلٍّ جذري وفوري يوقف العدوان ويُعِيد الأرض لأصحابها ويفكُّ الحصار الخانق.
إنَّنا لا نملك إلَّا مناجاة ربَّ العالَمِين أن يرحم عباده الجوعى المحاصَرِين في غزَّة وفي كامل الأراضي الفلسطينيَّة.. فهو وحده القادر على الانتقام من الظَّالِمِين.. فيا رب يا قوي يا عزيز انصر أهلنا في غزَّة واربط على قلوبهم وثبِّت أقدامهم وكُنْ لهم عونًا وفُكَّ كربهم.. إنَّك على كُلِّ شيء قدير.
ناصر بن سالم اليحمدي
كاتب عماني