السبت 02 أغسطس 2025 م - 8 صفر 1447 هـ

في العمق : التعايش الفكري وأهميته فـي إنتاجية وتطوير بيئة العمل فـي مؤسساته

في العمق : التعايش الفكري وأهميته فـي إنتاجية وتطوير بيئة العمل فـي مؤسساته
الثلاثاء - 29 يوليو 2025 01:06 م

د.رجب بن علي العويسي

10


يُمثِّل النَّمط الخِطابي المؤسَّسي وآليَّة عمله ومنهجيَّات أدائه وطريقة تعاطيه مع الأفكار والقضايا المطروحة في حياة المؤسَّسة من واقع مهامها واختصاصاتها وتعظيم الاستفادة المُجتمعيَّة مِنْها في مَسيرة التَّنمية الشَّاملة، أهميَّة كبيرة في نجاح المؤسَّسات وتحقيق الإنتاجيَّة المؤسَّسيَّة بما توفِّره من فرص أكبر لبناء منصَّات الحوار والتَّواصُل والتَّعايش الفكري مع الآخر (المُجتمع الوظيفي، والمستفيدين من الخدمة المؤسَّسيَّة داخل المؤسَّسة وخارجها، وحجم الإضافة النوعيَّة الَّتي يضيفها وجود المؤسَّسة في مَسيرة التَّنمية وحياة المواطنين في ظلِّ ما تحوي من هياكل تنظيميَّة، وبنية فكريَّة، وموارد بشريَّة وماديَّة وماليَّة، وتشريعات وأنظمة عمل وخبرات وتجارب وقناعات)؛ لضمان الوصول إلى حلول مقنعة وآليَّات عمل ناجحة تَضْمن للإنجاز المؤسَّسي التميُّز والرصانة والفاعليَّة والجدارة وتنعكس على طريقة صناعة القرار وآليَّة إنجاز المهام وأسلوب إدارة الموارد والفرص، والممكنات المتاحة في التَّعامل مع أخلاقيَّات الأزمات، وما تقدِّمه معايير الاستلطاف واستنطاق القِيَم والأفكار من استشراف المستقبل وارتفاع سقف التوقُّعات.

وبالتَّالي البحث في استراتيجيَّات تقوية هذا البُعد الاستراتيجي المؤسَّسي والاستفادة من كُلِّ المعطيات الماثلة في حياة المؤسَّسات، بالشَّكل الَّذي يُسهم في تكامل المهام وتعاظم المسؤوليَّات وتناغم التوجُّهات وحوكمة الأفكار ويضع حدًّا للازدواجيَّة في الاختصاصات وتنازع المهام والمسؤوليَّات، وغلبة العمليَّات الإداريَّة المتكررة على حساب الأولويَّات والتوقُّعات، بما يعني اعتماد أُطُر واضحة ومنهجيَّات عمل دقيقة في التَّعامل مع حالة الاختلافات والتَّذبذبات الفكريَّة المؤدِّية إلى التَّنازع أو المُسبِّبة للدخول في ترهُّلات فكريَّة في بنية المؤسَّسات ومستوى تبادل المعلومات ونشرِ البيانات وسلاستها، بما يتركه من سلبيَّات سُوء الإدارة والإخلال بالمهام والمسؤوليَّات والتَّركيز على فوقيَّة المناصب. إنَّ قدرة المؤسَّسات على ضبط هذا المسار وتَبنِّي سياسات ناضجة في إدارة الأفكار والاستفادة من الأطروحات وتعميق مساهمة المُجتمع الوظيفي في صناعة التَّغيير الشَّامل النَّابع من تقييم دقيق للاحتياج وتشخيص عملي للواقع واستشراف حكيم للمستقبل وحدس بالفرص، سوف يُعزِّز من كفاءة البنية المعرفيَّة المؤسَّسيَّة ويُعظِّم من فرص الاستفادة من عمليَّات الاتِّصال والتَّواصُل المؤسَّسي ويَضْمن وتأصيل ثقافة النَّقد البنَّاء المتفاعل مع الأفكار الَّتي تطرح من قِبل العاملين في المؤسَّسة أو خارجها، في ظلِّ ما باتتْ تقدِّمه منصَّات التَّواصُل الاجتماعي من مساحات واسعة من النَّقد وثقافة الرأي والرأي الآخر الَّتي تُسهم في صناعة البدائل وإنتاج الحلول وتوليد الأفكار المنتجة وتجديد أدوات الإنتاج والإعلاء من ثقافة العمل المسؤول؛ وتكامل البحث في تَبنِّي الحوكمة والشفافيَّة والابتكاريَّة في العمل المؤسَّسي، آخذةً بما يَدُور في فلك العمل المؤسَّسي من ثوابت ومبادئ المؤسَّسة وقِيَمها وأُسُس جودة الحياة والعلاقات الإنسانيَّة بها، بحيثُ تنقل المؤسَّسة من أساليب الردود الاعتراضيَّة السَّريعة إلى بناء بيئات عمل مريحة، ومنصَّات تمكين الحوار الدَّاخلي للمؤسَّسة وتأكيد قِيمتها في العمل وإنجاز المهام وتبسيط الإجراءات وتخليص المعاملات والتَّعامل مع الجمهور المستفيد بروح ملؤها المرونة والاحتواء، وتعزيز منطق الاقتناع الإيجابي والدِّفاع عن مبادئ المؤسَّسة ورؤيتها التَّطويريَّة وتوجُّهاتها المنبثقة من رؤية «عمان 2040» في ظلِّ التزام نهج جديد يَقُوم على استثمار الأفكار وتعظيم إنتاجها، وتثمير الأدوات وتوظيف وجهات النَّظر وتعدُّد الآراء من أجْلِ تعزيز قدراته التنافسيَّة وتوجيهها لصالح دعم هُوِيَّة المؤسَّسة ونطاق اهتماماتها.

إنَّ البنية الفكريَّة في أيِّ مؤسَّسة تُمثِّل العقل الاستراتيجي الَّذي يُديرها ويوجِّه بوصلتها ويؤسِّس لمنطق إنتاج القوَّة فيها ويستشرف المستقبل المنظور في مهامها بمزيدٍ من المرونة والثِّقة والاحترافيَّة؛ لذلك كان البحث في قدرة هذا البناء الفكري على التزام مسار الثَّبات والتنوُّع والجودة والتَّحليل العميق وكفاءة القرار وجاهزيَّة الخطط في مواجهة التَّغييرات المزاجيَّة والأفكار الأحاديَّة وسُلطويَّة الرَّأي الواحد، التَّفكير خارج الصُّندوق والتَّغريد خارج السِّرب، عِندَها تصبح هُوِيَّة المؤسَّسة وخصوصيَّتها منطلقًا لِفَهْم المتغيِّرات والعوامل الَّتي باتتْ تؤثِّر في إنتاجيَّتها، ومنطلقًا تبني في ظلِّه مراحل إنجاز قادمة لا تتوقف ومساحات عطاء تعكس نواتجها روح المسؤوليَّة والإخلاص والتوافقيَّة الحاصلة بَيْنَ قيادات المؤسَّسات والعاملين فيها، واستمرار خيوط التَّواصُل ممتدَّة بَيْنَ مُكوِّنات المؤسَّسة؛ لذلك كان التَّأكيد على مرونة الخِطاب والتزامه بقواعد واضحة وأنماط تواصليَّة مقنَّنة ومنهجيَّات اتِّصال متنوِّعة وحسٍّ اتِّصالي وتواصلي يُعبِّر عن مزيدٍ من الثِّقة والإيجابيَّة والمصداقيَّة، بما يمتدُّ تأثيره إلى خارج المؤسَّسة والقناعات الإيجابيَّة الَّتي يرصدها حَوْلَ جهود المؤسَّسة والاعتراف المُجتمعي بما حقَّقته على صعيد التَّنمية الوطنيَّة المستدامة، إنَّما هو في حدِّ ذاته مدخل لتأسيس منظومة أكبر وأشمل للاعتدال الفكري والتَّوازن المعرفي، وقِيمة المعرفة المتكاملة كمدخل للإنجاز وصناعة الفرص وإحداث الفارق، وتصبح هذه العمليَّات قائمة على استشعار جمعي وإيمان مطلق من المُجتمع الوظيفي بكُلِّ أطيافه أنَّ عَلَيْه أن يُعزِّز من إنتاجيَّة الأفكار ويضبطها بضوابط المؤسَّسة وأهدافها وأولويَّاتها لِتبقَى جزءًا أصيلًا من استراتيجيَّتها، ومرتكزًا لعمله.

من هنا فإنَّ قياس الإنتاجيَّة المؤسَّسيَّة في ظلِّ توظيف منصَّات الحوار الداخليَّة، وروابط الخِطاب المؤسَّسي واحتوائه، الطَّريق لوضع مسألة التَّوافق الفكري والمعرفي في البنية الداخليَّة للمؤسَّسات ومفاهيم المرونة والفاعليَّة والتشاركيَّة الفكريَّة في قائمة الأولويَّات المؤسَّسيَّة، بما يُعزِّزه من نُمو فرص النَّجاحات المرتبطة بها على حياة المُوَظَّف والمستفيد من خدمات المؤسَّسة، وقدراته ويرسخه في قناعاته بحيثُ تصنع المؤسَّسة من نَفْسِها بيئة حواريَّة لتوليد الأفكار واحتضان المبادرات والمشاريع الجادَّة، وإزالة رهبة الخوف لدَى المُوظَّف من التَّعبير عن رأيه عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة نظرًا لوجود اتِّفاق جمعي بأن يكُونَ هذا الحوار الطَّريق لتوجيه بوصلة العمل وتصحيح مسار التَّوَجُّه وإغلال أبواب الهدر والترهُّل الوظيفي؛ فإنَّ أغْلَب التَّحدِّيات الَّتي يعاني مِنْها البيت الداخلي للمؤسَّسات اليوم ترجع إلى غياب مُحفِّزات التَّوافق الفكري وارتفاع سقف الهشاشة الفكريَّة، وغياب الثِّقة في ظلِّ تفسير الاختلاف في وجهات النَّظر بَيْنَ المقصود من الحديث أو الرأي وفَهْم الآخر له ومستوى القناعة المتولدة لدَى المسؤول والأحكام المسبقة الَّتي يؤمن بها البعض حَوْلَ الشَّخص أو مجموعة الأشخاص، وهو دَوْر نعتقد أنَّ على بنية العقل الاستراتيجي للمؤسَّسات أن تعمل على تأطيره وبناء منصَّاته الحواريَّة الدَّاعمة لتوليد الأفكار وامتصاص الشّحنات السَّالبة النَّاتجة من التَّباعد بَيْنَ وجهات النَّظر.

وبالتَّالي كان البحث في زيادة منصَّات التَّواصُل المؤسَّسي وتفعيل دَوْر فِرق العمل الداخليَّة في رصد إنتاجيَّة الأفكار المطروحة وجديَّة التَّفاعل معها، وتقوية الرَّوابط بَيْنَ القيادات العُليا والإداريَّة ومختلف المستويات التنظيميَّة بالمؤسَّسة لِتنعكسَ على القرارات الداخليَّة، وتظهر في شكل التَّعميمات الدوليَّة، وتبرز في نمط التَّواصُل والخِطاب الرَّسمي، سوف يعالج الكثير من التَّحدِّيات الَّتي باتتْ تؤثِّر سلبًا على الجهد المؤسَّسي وسرعة ضبطه وتوجيهه، أو الَّتي باتتْ تأخذ مسارًا آخر يقوم على السَّحق الوظيفي، والإقصاء من المسؤوليَّات أو التَّهميش للأدوار أو التَّغييب لمهام بعض الاختصاصات في المؤسَّسة الواحدة، في حين من المفترض أن يكُونَ ذلك طريقًا للتَّكامل تجد خلاله المؤسَّسة سبيلها للنُّهوض ومنهجها للمراجعة وتحسين الممارسة، وتصحيح المسار، وبناء شراكات أكبر مع موظَّفيها والعاملين فيها باعتبارهم أساس نهضتها وتفوُّقها، ومدخلًا مُهمًّا في تعزيز قدراتها على توليد بدائل الحل، وفرصتها لتعميقِ ثقافة العمل وفْقَ نماذج مُحدَّدة وأُطر مقنَّنة، بل يفترض أن يؤدي هذا الاختلاف المعرفي في ظلِّ عمليَّات الرَّصد والقياس الممنهجة إلى التَّمازج المُعزِّز بروح المسؤوليَّة الجماعيَّة نَحْوَ المؤسَّسة.

أخيرًا، فإنَّ التَّعايش الفكري تجسيد عملي لنهج التَّوازنات الَّتي تعيشها المؤسَّسات في إدارة عمليَّات الاتِّصال لتحقيق الإنتاجيَّة، حيثُ يضع المؤسَّسات أمام مسؤوليَّتها في بناء بيئات عمل اتصاليَّة منتجة جاذبة، يشعر فيها الجميع بأنَّه يحمل رسالة المؤسَّسة في قلبِه وعقلِه وسُلوكِه، مرحلة يستشعر فيها مسؤوليَّاته نَحْوَ الاستثمار في خبرات المؤسَّسة ومواردها، وحُسن إدارة المعرفة وتوظيفها لتحقيق غايات المؤسَّسة وأهدافها، في ظلِّ فَهْم متحقق لطبيعة المهام القادمة ووظائف المستقبل المبتكرة بفعل التِّقنية المتقدِّمة والذَّكاء الاصطناعي وعَبْرَ توظيف الأفكار الَّتي تطرح من المُجتمع الوظيفي في المؤسَّسة، والمستفيدين من خدماتها، في إطار رفع كفاءة عمليَّات التَّحليل والدِّراسة والتَّشخيص والنَّقد البنَّاء وقياس نواتج الأداء وأثرها مُجتمعة على مرونة العمليَّات الداخليَّة وانسيابيَّتها في بيئة العمل الداخليَّة.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]