السبت 02 أغسطس 2025 م - 8 صفر 1447 هـ

في العمق : ثورة الوعي فـي وجه غربة القيم وموت الضمير الإنساني

في العمق : ثورة الوعي فـي وجه غربة القيم وموت الضمير الإنساني
الاثنين - 28 يوليو 2025 01:55 م

د.رجب بن علي العويسي

20

تواجِه الممارسة الدوليَّة اليوم وطأة التَّحزُّبات السِّياسيَّة والفكريَّة المندفعة والأيديولوجيَّات الَّتي حوَّلتها إلى غابة من الانتماءات المتوحِّشة الَّتي تفتقر لنمطِ التَّعايش والتَّناغم المشترك، فأوجدتِ العديد من الأفكار الهشَّة، والممارسات المزدوجة، والقرارات المغتصبة، والمفاهيم المغلوطة. ودعوات ممنهجة إلى وأدِ الحقيقة، وكبح جماح الحقِّ، ومعاقرة الفضيلة، ومصادرة الفكر، ونمطيَّة التَّفكير، ونُمو سُلوك التَّكفير والتَّضليل والتَّعصُّب للرَّأي، وغسل عقول الشَّباب بأوهام وخيالات وأفكار معقَّدة، وشعارات مضلِّلة، وأهداف شخصيَّة مغرضة، وتصوير الواقع لهم في صوَر هشَّة أقرب ما تكُونُ إلى مُتع زائلة، وخيالات وأضغاث أحلام، وبسبب نرجسيَّة وحمق وجبروت وتكبُّر وضلال وانحراف مَن يمتلكون قوَّة المال والسِّلاح، بَيْنَما هم في الأخلاق صفرٌ. ضاعتِ الأخلاق وانحسرتِ المشتركات وسلبتِ الحياة وانعدم الأمن والأمان والسَّلام وأُريقتِ الدِّماء، فلا إيمان بالمشتركات، ولا احترام للمقدّرات، ولا ثوابت أو التزامات؛ خانوا الدبلوماسيَّة، وأضاعوا العشرة، وقضوا على روح الإنسانيَّة؛ قتلوا الأبرياء من النِّساء والأطفال والكبار في غزَّة العزَّة، وقضوا على كُلِّ آثار التَّنمية والحياة. فلا ذمَّة لهم، ولا عهد، ولا ميثاق، ولا إنسانيَّة، ولا بَشَريَّة، ولا أخلاق.

ما يحصل اليوم من إبادة جماعيَّة، وتهجير قسري، وتجويع لشَعب غزَّة الأعزل، وقتل وقصف وتدمير لكُلِّ مُقوِّمات الحياة، هو إحدى صوَر المَدَنيَّة الزَّائفة الَّتي يعيش على وقع كلماتها المتصهينون والسُّذَّج من البَشَر الَّذين تنقصهم النَّخوة وتموتُ فيهم الضَّمائر، لِتكشفَ غزَّة الحقائق وتفضح المؤامرة وحجم الكذب والزَّيف الَّذي تتحدث به المنظَّمات الدوليَّة بشأن بحقوق الإنسان وحُريَّة الرَّأي وحقوق المرأة والتَّعايش، بَيْنَما يمارس الحقد والكراهية والظُّلم والقهر، وإقصاء كُلِّ فرص السَّلام والتَّعاون والحوار. واقع مأساوي يفضح هشاشة الحضارة الغربيَّة ودناءة السُّلوك الأميركي ـ الصُّهيوني الجبان، وعقليَّة البراجماتيَّة الَّتي لا همَّ لها سوى مزيدٍ من القتل وإراقة الدِّماء ونشرِ الفِتَن، فضاعتْ بهذا التَّهوُّر القذر والاندفاع النَّتن والعقل المختلف أُمم، واندثرتْ حضارات، وتدهورتْ حياة البَشَر، وتغرَّبتِ القِيَم، وطُمستْ آثار الشُّعوب وهُوِيَّة الحضارات. لِيخبرَنا ما يحدُث اليوم من كُلِّ أشكال القتل والتَّدمير الَّتي لم تشهدْها البَشَريَّة في تاريخها المعاصر وانغمستْ فيها أيادي الصُّهيونيَّة والامبرياليَّة والأميركيَّة الحاقدة بحقيقة تاريخيَّة، مفاده أنَّ ما يحصل من إجرام صهيوني ـ أميركي وتواطؤ غربي وبعضه عربي في غزَّة أساسه غياب القِيَم وموت الضَّمير الإنساني وذبول الأخلاق، وأنَّ حقائق التَّاريخ تقول: إنَّ أيَّ كيان يبدأ سقوطه وزواله من عبثه وإجرامه وإخراجه القِيَم والمشتركات الإنسانيَّة من قاموس التَّعامل والخدمة؛ فإنَّ ما يحصل اليوم هو بداية النِّهاية لنظام صهيوني عنصري إمبريالي فاشل. إنَّها إرهاصات نَحْوَ سقوط العالَم نَحْوَ الفوضى، واتِّساع الاختلالات الفكريَّة والتَّباينات بَيْنَ عوالمه المختلفة. ولمَّا كانتْ أعمار البَشَر والدول والحضارات قصيرة، وأعمار القِيَم والأخلاق أطول في حقب التَّاريخ المتعاقبة، فإنَّ العالَم بحاجة إلى سفينة الأخلاق وأشرعة القِيَم الَّتي توجّه بوصلته إلى بَرِّ الأمان؛ وعلى الشُّرفاء وأصحاب المبادئ في العالَم اليوم مسؤوليَّة كبرى في إعادة ثورة القِيَم والأخلاق إلى حظيرة هذا العالَم ومنظَّماته ومؤسَّساته.

وعَلَيْه، فإنَّ الممارسة العدوانيَّة المضادَّة للفطرة البَشَريَّة، والمُعَبِّرة قولًا وفعلًا وصفة عن العقيدة الصُّهيونيَّة في تاريخها الوجودي، بما عُرِفت به من قتل أنبياء الله والفساد في الأرض، وانتهاك حرمات البَشَر والشَّجر والحجر والوطن، وفي ظلِّ هيمنة الصُّهيونيَّة العالَميَّة على أعمدة الإعلام والاقتصاد والسِّياسة وتحكّمها في المنظَّمات الدوليَّة، ما هي إلَّا أحَد جراثيم هذه الحضارة البائدة وحجم المشوّهات الَّتي تتعامل بها والانحرافات الَّتي تُعَبِّر عَنْها، لذلك لم يعجبْها حوار الحضارات وتفاعل الثَّقافات، بل ظلَّتْ في صورتها القزميَّة الَّتي تقرأ فيها العالَم وعَبْرَ صراع الحضارات، وفي ظلِّ تغييب الفرص والحقائق المتحقِّقة من الحوار والتَّكامل والانسجام، وتعزيز الرَّابطة المشتركة والأخلاق باعتبارها خيوطًا متَّصلة لعالَم يَسُوده الأمن والسَّلام، لِتتحولَ هذه الأفكار في ظلِّ العقيدة الصُّهيونيَّة الأميركيَّة المُجرِمة إلى أدوات للقتل والتَّدمير والتَّهجير والتَّهميش والإقصاء، وإثارة الخلافات والنّزعات العِرقيَّة والمذهبيَّة، والتَّفكير الأحادي، واختُزِلتِ القِيَم، وانتُهكتِ الأعراض، وضاعتِ الأخلاق، وانتصرتْ للسَّاديَّة البغيضة، والنَّرجسيَّة المُهينة، والضَّغينة والأحقاد، وزرعتِ الكراهيَّة وزعزعتِ الثِّقة بَيْنَ الشُّعوب وحكوماتها. لِتتسعَ الهُوَّة بفعل التِّقنية، الَّتي كان يفترض أنَّها جاءتْ لخدمة الإنسان وإسعاده.

وسخَّرتْ شبكات التَّواصُل الاجتماعي ووسائل الاتِّصال الرَّقميَّة الأخرى للنَّيْل من الإنسان وتحجيم إنجازات الأوطان. وتحوَّلتْ منصَّات التَّواصُل الاجتماعي لمنابر هجوميَّة ومحرِّضة تَقُود إلى خروج عن المسار، وانحراف في البوصلة، واختزال مناهج القِيَم، وأصبح المحتوى الرَّقمي بما يحمله من كراهيات الطَّريق لاتِّساع ظاهرة التَّنمُّر السِّياسي والتَّعصُّب الفكري ومصادرة الرَّأي الآخر.

وما أوجدَتْه هذه البيئة من تكريس لُغة الأنانيَّة والاختلاف في الرَّأي، وسُلطويَّة التَّفكير وعُقم الأساليب، والتَّشفِّي من الآخر أو إلحاق الضَّرر به في امتدادٍ مُهين وقذر للهيمنة الفكريَّة وتهديد الهُوِيَّات والخصوصيَّات.

عَلَيْه، فإنَّ الوعي العربي يمرُّ اليوم بمخاض كبير واختبارات نوعيَّة وصعبة في الوقت نَفْسه، عَلَيْه أن يُعِيدَ إنتاج أدواته وضبط محتواه وتصحيح المفاهيم المغلوطة بشأنه وتعظيم فرص الفرادة والتَّميُّز فيه وفْقَ مرتكزات عقديَّة وفكريَّة وتنويريَّة وثوابت وأبجديَّات ومفاهيم انطلقتْ من روح الإسلام وعظَمته وجسَّدتِ الحقائق القرآنيَّة شواهد على الأرض، لِتُعيدَ قراءة المشهد العربي في قناعات الشُّعوب من جديد؛ فإنَّ العدوان على غزَّة وحرب التَّجويع الهمجيَّة البربريَّة الَّتي يمارسها أعداء الإنسانيَّة، أعطى الشُّعوب العربيَّة صورة أكثر وضوحًا كشفتْ عن الأقنعة الخفيَّة الَّتي تدسُّ سمومها وتحيك مؤامراتها على النَّوع العربي، في أشكالٍ مختلفة ووسائل وتعابير برزتْ على حقيقتها بعد أن انكشف قناعها المزيَّف، عَبْرَ الإعلام والتَّعليم وغيرها من وسائل الإلحاد والنسويَّة، كما أنَّ دعوات التَّطبيع مع الكيان الصُّهيوني والصُّورة الَّتي قدَّمها الصَّهاينة العرب المندسُّون بَيْنَ هذه الأُمَّة على أنَّها تجديد للتَّعايش بَيْنَ العرب واليهود أكذوبة تأريخيَّة وتضييع للحقِّ العربي في فلسطين، فلَمْ تَعُدْ هذه الشِّعارات سوى فرقعات صوتيَّة ظهرتْ بأنيابٍ مفترسة في الحرب على غزَّة، وأبانتْ مدى الحقد الصُّهيوني الأميركي على النَّوع العربي، فإنَّ الحرب على غزَّة أعطتِ العالَم أجمع دروسًا عظيمة، وأعادتْ تشكيل الصُّورة الَّتي اعتاد عَلَيْها العقل العربي لأكثر من سبعة عقود مضتْ حَوْلَ الاحتلال الصُّهيوني والمسلَّمات الَّتي زرعتْ فيه معالَم الخوف والذُّل والهوان، لِتأتيَ غزَّة برجالاتها العظام وأبطالها وأطفالها وحرائرها وشهدائها لِتُعيدَ إنتاج الصُّورة من جديد، صورة لا يتصدر مشهدها المتصهينون والكلاميون والمنافقون والخوَنة والمتاجرون بالأرض والعِرض والشَّرف والرُّجولة، بل يتصدرها المؤمنون الصَّادقون، الأوفياء للأرض والوطن والإنسانيَّة بما يحملونه من معاني الإيمان والعقيدة والعزَّة والشُّموخ والنَّصر والغلَبة والقوَّة والإرادة والتَّضحية والبطولة، صورة مُلهِمة تتجلَّى فيها معالم الحياة النموذج، وتبرز مفاهيم الحُريَّة الموجَّهة في سبيل الله، والسَّاعية نَحْوَ مرضاة الله وجنَّته، قوامها الجهاد والإيمان بالثَّوابت والمبادئ والأرض والوطن.

أخيرًا، وفي ظلِّ هذا السُّقوط الأخلاقي والدَّناءة المدوِّية في بشاعة الجرم ونذالة الظُّلم وشؤم التَّجويع وعنصريَّة التَّهجير وحماقة الإبادة، فإنَّ البَشَريَّة بحاجة اليوم إلى إعادة نمط تفكيرها في واقعها، ورسم خريطة جديدة تعتمد على ترقية فرص الاحتواء الكثيرة الَّتي وجدتْ في حياة الإنسان.

يَجِبُ إصلاح منظومة السِّياسة الدوليَّة، واستعادة الثِّقة في حياة الأُمم، في تخليص العالَم من المُجرِمِين القتلة والكفرة والفجرة والنَّازيِّين، إلى جانب تصحيح وتقييم وإعادة مراجعة أدوار المنظَّمات الدوليَّة بلا استثناء، وفي المقابل، حوكمة الإعلام والتَّعليم، وتعظيم الأخلاق في السِّياسة الإعلاميَّة والخِطابيَّة، وتجديد الخِطاب الدِّيني والسِّياسي والمؤسَّسي والأُسري وتغيير نمطه، وإعادة صياغة الممارسات المُجتمعيَّة والمؤسَّسيَّة وفْقَ منظومة قِيَميَّة وأخلاقيَّة محكومة بالمعايير مصونة بكفاءة الأدوات، والوقوف عِندَ مسبِّبات الفعل السَّلبي، وتعميق مفهوم المُجتمع الأهلي المشارك والمتناغم مع طبيعة الإنسان واحتياجه للآخر ومراعاة ظروفه، وبناء مسارات أوسع للثِّقة والحوار والتَّواصُل والعلاقات الإنسانيَّة القائمة على احترام الخصوصيَّة والسِّيادة الوطنيَّة والاعتراف بالهُوِيَّة ووحدة المبدأ، وأخوة المنهج، ومشترك المرجع، وشعور الإنسان بالقِيمة الإيجابيَّة المضافة المخزّنة لدَيْه، وتعزيز فرص الاستمتاع بمواهبه وقدراته واهتماماته واستعداداته وابتكاراته، وتعميق شعور الإنسانيَّة لدَيْه عَبْرَ مشاركة العالَم أفكاره واهتماماته وأولويَّاته، وإبراز روح الوئام الإنساني والمشترك الَّذي يجمع البَشَر، ومسؤوليَّة شرفاء العالَم في بناء مشروع حضاري تنموي، يعظم إنسانيَّة الإنسان واستحقاقات التَّكريم الَّتي خلقها الله فيه.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]