في عالَم باتتْ فيه الشَّاشات تسيطر على تفاصيل يوم الطِّفل، وأصبح القلق المفرط هو القاعدة في تربيَّة الأبناء، تبدو رُبَّما ـ في أيَّامنا هذه! ـ فكرة تسلُّق شجرة وكأنَّها مغامرة غير محسوبة، ورُبَّما حتَّى تهديدًا للسَّلامة الجسديَّة. لكن لو توقَّفنا لحظةً وتأمَّلنا ما يعنيه هذا الفعل البسيط في حياة الطِّفل، لتغيَّرتْ نظرتنا بالكامل. لحظة الوقوف على غصن شجرة، والنَّظر إلى الأرض من ارتفاع، مع نبضات قلب تتسارع ويدين تتشبَّثان بجذع الحياة... قد أقول إنَّها ليسَتْ مجرَّد لحظة لعب، بل درس نادر في الاستقلاليَّة، والثِّقة بالنَّفْس.
لقد أصبح الآباء من شدَّة الخوف، يبنون حَوْلَ أطفالهم أسوارًا من الحماية تمنعهم من لمس العالَم الحقيقي. وينسون أنَّ السُّقوط جزء من النُّمو، وأنَّ الخطأ هو المُعلِّم الأوَّل. بل وفي كُلِّ مرَّة نمنع فيها طفلًا من تسلُّق شجرة، ننتزع مِنْه فرصة لا تعوض ليتعلَّمَ التَّوازن، ويجرِّب حدوده، ويكتشف إمكاناته. الدِّراسات الحديثة تؤكِّد أنَّ الأطفال الَّذين ينخرطون في أنشطة تتضمن مخاطرة محسوبة، كالتسلُّق أو الجري غير المقيد أو التَّوازن على الأسطح، ينمون بصورة أفضل نفسيًّا وجسديًّا.
ففي دراسة منشورة عام ٢٠٢٣م، وجد أنَّ الأطفال الَّذين سُمح لهم باللَّعب في بيئة طبيعيَّة مفتوحة، مع وجود تحدِّيات حركيَّة، كانوا أقلَّ عرضة للقلق والاكتئاب بنسبة قاربتْ اثنين وعشرين بالمئة، مقارنةً بأقرانهم الَّذين تربّوا في بيئة شديدة الانضباط والمراقبة.
ولعلِّي أعطيتُ مثالًا للشَّجرة؛ لأنَّها بحقٍّ ليسَتْ مجرَّد خشب وفروع، بل هي مختبر متكامل لنُموِّ الدِّماغ والجسد. عِندَ تسلُّقها، ينشط الطِّفل مناطق في دماغه مسؤولة عن التَّوازن، واتِّخاذ القرار، والإدراك المكاني. حتَّى أنَّه في كُلِّ خطوة نَحْوَ الأعلى، يتعلم كيف يقيِّم المخاطر، ويختبر قوَّته، ويستخدم مهاراته الحركيَّة الدَّقيقة والخشنة. وأحيانًا مع الاستمرار في تسلُّق شجرة صغيرة، ستظهر عضلات الطِّفل وانسجام عملها، ممَّا يُعزِّز صحَّته العامَّة ويقيه من الخمول والسُّمنة، بَيْنَما يرتفع هرمون السَّعادة السيروتونين وينخفض هرمون التَّوتُّر الكورتيزول.
ورغم أنَّ القلق من الإصابات مبرَّر، إلَّا أنَّ دَوْر الأهل لا ينبغي أن يكُونَ في منع الخطر تمامًا، بل في تعليم كيفيَّة التَّعامل معه. فالطِّفل الَّذي يُمنح الفرصة لتجربة المخاطرة ضِمن حدود مدروسة، يكتسب قوَّة نفسيَّة يصعب تحقيقها في بيئة معقَّمة. ففي الدول الاسكندنافيَّة، الَّتي تُعَدُّ من بَيْنِ الأعلى عالَميًّا في مؤشِّرات السَّعادة والتَّوازن النَّفْسي لدَى الأطفال، نجد ما يُعرف بـ»مدارس الغابة»، حيثُ يقضي الأطفال ساعات طويلة من يومهم بَيْنَ الأشجار، يتعلمون بالتَّجربة، ويخوضون مغامرات حقيقيَّة. تلك النَّماذج لا تقدِّم للأطفال مغامرة فقط، بل تَبني إنسانًا أكثر وعيًا وثقةً وتماسكًا، خصوصًا وأنَّنا في وطننا نحظى بكُلِّ الإمكانات الطَّبيعيَّة والَّتي من الجيِّد استغلالها لصنعِ بيئات خلَّاقة لأبنائنا الأطفال!
بلا شك الطِّفل الَّذي يُسمح له بتسلُّق الشَّجرة، يكُونُ أكثر وعيًا بجسده وحدوده، وأقلَّ اندفاعًا نَحْوَ السُّلوكيَّات الخطرة في المستقبل. إنَّه لا يبحث عن الخطر للتمرُّد، بل يجد فيه ساحة تدريب على التَّعامل مع الحياة. هذا لا يعني ترك الأطفال دُونَ إشراف، بل منحهم ـ بطبيعة الحال ـ مساحة للنُّمو بحُريَّة مسؤولة. وهكذا أن تراقبَ من بعيد، وتُعلِّمَ من قريب، دُونَ أن تكبِّلَ، هو التَّوازن المطلوب!
ختامًا، حين يتسلَّق الطِّفل شجرة، فهو لا يصعد فقط نَحْوَ الأعلى، بل يتسلَّق داخله أيضًا. يتحدَّى خوفه، ويستشعر قوَّته ويتواصل مع الطَّبيعة، ويعيش لحظة انتصار خالدة. ولعلَّ تلك اللَّحظة تُسهم في بناء شخصيَّته أكثر ممَّا تفعل عشرات السَّاعات في الصُّفوف الدراسيَّة أو أمام الشَّاشات. فدَعْ طفلك يتسلَّق الشَّجرة... دعْهُ يسقط، يتعلم، وينهض؛ لأنَّ الطُّفولة الحقيقيَّة ـ إن صحَّ لي القول ـ لا تُبنى على الرَّاحة والأمان المفرط، بل على التَّجربة، والسُّقوط، والانتصار... رُبَّما تكُونُ الشَّجرة اليوم هي أوَّل قمَّة له، لكنَّها لن تكُونَ الأخيرة!
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي