عِندَما حذَّر الحالمون من خطر التغيُّر المناخي قَبل عقود، كان هدفهم أن يوقظوا العالَم من سُباته العميق، ولم يكُنْ في نيَّتهم أن يخيفوه، لكنَّ هذا العالَم بدا وكأنَّه يتلذَّذ بالعناد، واختار عن وعي لا عن جهل، أن يتجاهلَ تلك الصَّيحات، وانقسمتِ الدول إلى معسكريْنِ. فهناك فريق وقَّع على اتفاقيَّات من نوع (باريس) لحفظ ماء وجهه أمام ناخبيه وشركائه، دُونَ تحرُّك حقيقي يلمس الحل، وفريق آخر انسحب مِنْها متباهيًا برفض الواقع، كما فعلتِ الولايات المُتَّحدة في عهد ترامب، مرَّتيْنِ لا مرَّة، وكأنَّ واشنطن ترامب تقول للكوكب: أنتَ مجرَّد منصَّة لاستخداماتنا، لا شريك لنَا في المصير.. واليوم لا نحتاج إلى تقارير علماء المناخ لنفهم حجم المأساة، فالمشهد ذاته صار خطابًا كونيًّا صارخًا، حرارة تسحق أوروبا، وفيضانات تغرق أميركا، وحرائق تجتاح الغابات، والجفاف يلتهم أنهارًا في طول المعمورة وعرضها، من باريس إلى تكساس، ومن الهند إلى إفريقيا وحتَّى القطبَيْنِ الشَّمالي والجنوبي. واللافت أنَّ الطَّبيعة تعلن رفضها الصَّامت بأنَّ الأرض لم تَعُدْ تُطيق استغباء الإنسان، وكأنَّها قررتْ أن تكتبَ بيانها الأوَّل بلُغة مختلفة، مفرداتها هي، لهب وماء وعواصف، لِتقولَ كفى. في أوروبا لم يَعُدِ الصَّيف موسمًا مرحًا، كما كان في السَّابق، لكنَّه تحوَّل إلى موعد موسمي مع الفقد، فدرجات الحرارة تجاوزتْ كُلَّ ما اعتادته القارَّة العجوز، وصارتِ المُدُن تختنق من الحر، في روما تصدعتِ الأرصفة القديمة تحت ضغط الشَّمس، وتحوَّل النَّهر إلى مجرى شاحب، وفي باريس توقَّف النَّاس عن الخروج نهارًا، وأصبحتِ الملاجئ الحراريَّة تكتظ بكبار السِّن والمرضى. أمَّا في مدريد فقد تساقطتْ شبكة الكهرباء بها، كما يتساقط النِّظام عِندَما يعجز عن اللَّحاق بالزَّمن. باختصار، هناك في كُلِّ مكان، شيء ما يحطِّم وَهْمَ السَّيطرة، لكنَّ الأخطر من ذلك، أنَّ مُعْظم الحكومات لا تزال تصرُّ على معاملة هذا الجحيم المناخي كحالة طارئة، رغم أنَّه صار القاعدة الجديدة، فالطَّبيعة لم تَعُدْ تحتمل ترف التَّأجيل، ولا لُغة الوعود، لقد قررتْ أن تبدأَ حربها وحْدَها، ضدَّ كائن لم يتعلَّمْ من خطايا الطغيان، ولا من دروس التَّاريخ، لقَدِ اختلَّ الميزان، والطَّبيعة الَّتي اعتادتْ أن تنثرَ الخير، بدأتِ الآن تلوِّح بالمطرقة.
أمَّا في أميركا فنجد الحكاية تحمل شيئًا من الكوميديا السَّوداء، الَّتي اعتاد ترامب استخدامها في خِطاباته وإسقاطاته السِّياسيَّة ضدَّ خصومه، فهذا البلد الَّذي خرج من اتفاقيَّة باريس كَيْ لا (يقيدَ) نُموه الاقتصادي، عاد لِيجدَ نَفْسه محاصرًا بطوفان لا يعترف بالحدود أو بالنيَّات، فيضانات تكساس وأمطارها غزيرة، كانتْ مشهدًا فاضحًا لضعفِ البنية الأساسيَّة، ولغطرسةِ النِّظام السِّياسي في التَّعامل مع التَّحذيرات العلميَّة، والمفارقة المريرة أنَّ المناطق الَّتي تضررتْ، كانتْ نَفْسها الَّتي صوَّتتْ للرَّجُل الَّذي وصفَ الاحتباس الحراري بالخدعة، وهنا المناخ من (مسألة علميَّة)، إلى استفتاء مفتوح على الغباء السِّياسي، وعلى هشاشة الأساطير الَّتي بنتها الدَّولة العظمى، وكأنَّ الطَّبيعة تُعاقِب مَن لم يحترمْها، وتسحقه دُونَ إنذار، فكُلَّما ارتفع منسوب الإنكار، ارتفع منسوب الماء، والمياه حين تثور، لا تفرِّق بَيْنَ غني وفقير، بَيْنَ ديمقراطي وجمهوري، إنَّها طوفان جديد، بلا سفينة، ولا ناجين مختارين، فقط الحقيقة تطفو، حين يغرق الجميع.
وهكذا نَعُود إلى المعنى العميق الَّذي نخشى مواجهته، ونتساءل: هل نحن على أعتاب طوفان جديد؟ لكنَّه طوفان بلا نبي، وبلا تحذير سماوي، يحمل رسائل لا تقلُّ وضوحًا، طوفان يختلف عن الأوَّل الَّذي عرفه التَّاريخ وحدَّثتنا عَنْه الكتُب السَّماويَّة، والَّذي كان عقوبة على إفساد الأرض وفسادها، لكن ما نحذِّر مِنْه طوفان آخر عقوبة على خيانة البَشَر للأرض، لقد كفر الإنسان بنعمة التَّوازن، فاستحقَّ أن يرى الخلل بأُمِّ عَيْنِه.. إنَّ جرائمنا تجاه البيئة تجعلنا نتخطى عصر التوقُّعات، ونعيش عصر النَّتائج، وشاهد عقاب عملي على ما اقترفتْ أيدينا، فالتَّغيُّر المناخي تخطَّى كونه خطابًا أكاديميًّا، أو أزمة مؤجلة، وأضحى كارثة تسير على قدميْنِ وتطرق أبواب الجميع، من تكساس إلى برلين، ومن الشَّرق الأوسط إلى الشَّرق الأقصى والأدنى. فالطَّبيعة تصرخ متى سيتوقف الإنسان؟ لقد آنَ للوعي أن يتحولَ من خيار سياسي إلى واجب أخلاقي، وإلَّا فالفصول القادمة لن تكُونَ مواسم طبيعيَّة، لكنَّها ستكُونُ فصولًا من كِتاب العقاب، لا يقرؤه إلَّا مَن تبقَّى له وقت لِيفهمَ، نحن لا نغرق فقط في الماء، لكنَّنا نغرق أوَّلًا، في وَهْم القدرة على السَّيطرة، وعَلَيْنا جميعًا أن ندرك، أنَّ الطوفان، حين يأتي، لا يطرق الباب.
إبراهيم بدوي