حين تعتمد منظَّمة دوليَّة بحجم اتفاقيَّة «رامسار» موقعًا طبيعيًّا، فهذه شهادة موثَّقة من كيان كبير لجهود سلطنة عُمان، الَّتي دخلتْ بمحميَّتها الطَّبيعيَّة في محافظة الوسطى إلى القائمة الدوليَّة للمواقع ذات الأهميَّة البيئيَّة، ذلك أنَّ هذا الاعتماد لم يهبطْ فجأة، لكنَّه ثمرة لعقودٍ من العمل الهادئ، من دراسة سُلوك الطُّيور إلى سنِّ تشريعات دقيقة، إلى رصدِ التَّفاصيل الميكرويَّة في التُّربة والمياه والكائنات، جهود تؤكِّد أنَّ السَّلطنة لم تكُنْ تبني محميَّة بقدر ما كانتْ تؤسِّس ثقافة بيئيَّة قوامها الفعل، وحين ترى اليوم أنَّ أرضًا كانتْ تحسب على الهامش، أصبحتْ في صدارة الاعترافات العالَميَّة، تدرك أنَّ رؤية التَّنمية البيئيَّة في سلطنة عُمان ليسَتْ شعارًا، بل عقيدة وطنيَّة يتنفَّسها المُخطِّط قَبل الزَّارع، والعالَم قَبل السَّائح.
هذا الإنجاز هو لحظة تتصافح فيها الجهود العُمانيَّة الداخليَّة، مع الخارج الدولي في مساحة خضراء تمتدُّ على الرِّمال، فمن خلال هذا الحدث، تُثبتُ سلطنة عُمان أنَّ الالتزام بحماية الطَّبيعة يحتاج إلى مؤسَّسات تعمل ومراكز ترصد، وشراكات تَضْمن الاستمراريَّة.. هنا تظهر حنكة الإدارة العُمانيَّة، الَّتي مزجتِ الرُّؤية البيئيَّة بالعمل التَّنفيذي، فخلقتْ نموذجًا تتقاطع فيه أدوار الحكومة مع الباحثين، والقِطاع الخاصِّ مع الجهات الأكاديميَّة، والنَّتيجة كانتْ منظومة صُلبة، تحافظ على التَّوازن الطَّبيعي، دُونَ أنْ تعرقلَ قطار التَّنمية. فالمحميَّات أصبحتْ ورشًا مفتوحة لإنتاج المعرفة، وتأهيل الكوادر، وابتكار حلول للأزمات البيئيَّة المتغيِّرة، وعِندَما تُقدِّم عُمان نَفْسَها كمثال في هذا المجال، فهي لا تفعل ذلك من باب التَّفاخر، بل لِتضعَ معيارًا جديدًا يُقاس به الالتزام البيئي بالأثَر طويل الأمد.
إنَّ تلك الشَّهادة الدوليَّة تؤكِّد أنَّ وراء كُلِّ طائر مهاجر يحلِّق فوق أرض الوسطى، قصَّة اقتصاد لا تُروى كثيرًا في تقارير التَّنمية التَّقليديَّة، فالمحميَّة اليوم تتحول من مجرَّد ملاذ بيئي إلى مُحرِّك للتَّنويع الاقتصادي، تَسير فيه السِّياحة البيئيَّة جنبًا إلى جنبٍ مع البحث العلمي والتَّمكين المُجتمعي. لقَدْ نجحتِ السَّلطنة في تحويل جَمال الطَّبيعة إلى قِيمة مضافة تدرُّ دخلًا من خلال رحلات المراقبة البيئيَّة، وتجارب الغوص في النُّظُم الطَّبيعيَّة، وتكوين بنية أساسيَّة صديقة للبيئة، تعكس كيف يُمكِن لجغرافيا صحراويَّة أنْ تفتحَ ذراعَيْها لاقتصاد أخضر، هذا الدَّمج الذَّكي بَيْنَ الحماية والتَّنمية، يُعِيدُ تعريف مفهوم الاستثمار نَفْسه، فالموارد الطَّبيعيَّة لم تَعُدْ فقط مادَّة خامًا للاستخراج، لكنَّها أصبحتْ كنزًا معرفيًّا وتجريبيًّا وإنسانيًّا. ومن هنا تفتح محميَّة الوسطى بابًا واسعًا لمشاريع الشَّراكة الدوليَّة، وذلك عَبْرَ جلبِ التَّمويل ولتبادل الرُّؤى، وتعزيز مكانة السَّلطنة كفاعل دولي يحترم الطَّبيعة، ويستثمر فيها دُونَ أنْ يخلَّ بتوازنها.
وهنا عَلَيْنا أنْ ندركَ أنَّ الاعتراف الدولي ليس نهاية الرِّحلة، بل بدايتها، فالمحافظة على ما تحقَّق يتطلب نقْلَ قِيَم الحفاظ البيئي من النُّخبة إلى المُجتمع، من الدَّوائر الرَّسميَّة إلى البيوت، من الخطط الورقيَّة إلى سُلوك يومي؛ لذا تبادر الدَّولة بتوسيع دائرة الشَّراكة مع المُجتمعات المحليَّة، وتجهيزهم ليكُونُوا حرَّاسًا للطَّبيعة لا متفرِّجِين عَلَيْها، كما تُطلق برامج توعويَّة تغرس في النُّفوس معنى الانتماء البيئي، وبَيْنَ الدَّعم المالي، والخبرات الفنيَّة، تنمو رؤية متكاملة تؤمن أنَّ حماية فرصة لإعادة صياغة علاقتنا بالعالَم، وبهذا النَّهج تتحوَّل محميَّة الوسطى إلى رمزٍ تتجاوز فيه الرِّمال حدود المكان، لِيصبحَ صدى الإنجاز بيئةً تنبض في ضمير كُلِّ عُماني، وتفتح للدَّولة أبواب المستقبل بخُطًى واثقة، واقتصاد أخضر لا يعرف سوى طريق التَّقدُّم المستدام.