تصدر بعض المؤسَّسات الحكوميَّة في أيِّ دَولة قرارات أقلّ ما يُمكِن القول عَنْها إنَّها غير مقبولة من قِبل فئة من السكَّان (المواطنين والوافدين)، فتجد الكثير من النَّقد والامتعاض والسّخط، وعِندَما نقول إنَّها غير مقبولة فبكُلِّ تأكيد ستكُونُ الأسباب أنَّها ومن وجهة نظر تلك الشَّريحة تتعارض أو تضرُّ بمصالحهم.
إذًا هل الدَّولة مُلزمة عِندَ إصدار قراراتها أن تراعيَ مصالح الأفراد حتَّى تكسبَ رضاهم وتتجنبَ سخطهم وامتعاضهم؟ بمعنى آخر أنَّها يَجِبُ ألَّا تصدرَ قرارات تتعارض ومصالح السكَّان مهما كانتِ الأسباب؟ بكُلِّ تأكيد الدَّولة مُلزَمة بتحقيق الموازنة بَيْنَ المصالح العامَّة للدَّولة ومصالح الأفراد (السكَّان)، مُلزَمة بالمواءمة بَيْنَ الالتزامات الحكوميَّة والمتطلبات الشَّعبيَّة، وهذا هو الدَّوْر الأصيل للحكومة.
من جانب آخر الحكومة غير مُلزَمة إلَّا ببذل العناية والجهد الأكبر للمواءمة ولكن بكُلِّ تأكيد لا توجد حكومة قادرة على تحقيق الرضا العام إلَّا في بعض التوجُّهات، ورغم ذلك حتَّى هذه الأخيرة ستجد مَن يعارضها، وبذلك رضا الجميع غاية يصعب تحقيقها عقلًا ومنطقًا، والحكومة لا يُمكِن أن تنجرفَ وراء عواطف الجماهير أو الرأي العام في كُلِّ سياسة أو توجُّه.
على ضوء ما سبَق نقول: هل المصالح العامَّة للدَّولة والَّتي يَجِبُ أن تكُونَ من بَيْنِها تحقيق مصالح الأفراد يَجِبُ أن تتعارضَ وتتقاطع؟ هل يَجِبُ أن تصطدمَ الحكومة مع مواطنيها بقرارات أقلّ ما يقال عَنْها إنَّها مزعجة وتشعرهم بالقلق الدَّائم وعدم الشُّعور بالطُّمأنينة؟
في مؤلَّفي الدَّولة المطمئنة قلتُ إنَّ «خطورة القرارات والتَّشريعات غير المناسبة لا يؤثر فقط على الجيل القائم نفسيًّا أو فكريًّا، بل تمتد آثاره وانعكاساته على الأجيال القادمة بكُلِّ مستوياتها، كما لا يقتصر تأثير انعكاس تلك القرارات والتشريعات على جانب معيَّن من جوانب الحياة الوطنيَّة للأُمَّة، بل تمتد آثاره لتشملَ مختلف الجوانب ونواحي الحياة الوطنيَّة، سواء كانتْ سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو اجتماعيَّة أو أمنيَّة...إلخ».
من جهة أخرى «تؤثِّر تلك التشريعات والقرارات بشكلٍ كبير وخطير على المزاج العام أو الرأي العام من نواحٍ عديدة، ما ينعكس سلبًا أو إيجابًا على منظومة الأمن والاستقرار الوطني الشَّامل والاستراتيجي لأيِّ أُمَّة وطنيَّة، فالإنسان هو منبع الأمن والاستقرار وهدفه الرَّئيس، وهو الحارس له والقائم على حفظه، حيثُ يلاحظ دائمًا أنَّ جميع القرارات والتشريعات والتصريحات، وخصوصًا تلك الَّتي تدخل في صلب معيشة المواطنين والمقِيمِين وحياتهم اليوميَّة وتؤثِّر بشكلٍ مباشر أو حتَّى غير مباشر في دخل الفرد تأخذ مساحة واسعة من التعاطي والشَّد والجذب ما لا تأخذه غيرها من القرارات الوطنيَّة».
فتطوُّر وعي الجماهير وثقافتهم ونظرتهم إلى المحيط الخارجي الجديد، وارتفاع نسبة المتعلمين بَيْنَهم وتوسُّع ثقافتهم الإلكترونيَّة واطلاعهم على ما يحدُث خارج بيئتهم ومحيطهم الدَّاخلي، وقدرتهم على المشاركة والتأثير على تلك الأحداث، وتأثرهم بها كذلك سلبًا أو إيجابًا، يفرض بالضرورة الحتميَّة والإلزاميَّة تطوُّر وعي القيادات ومؤسَّسات الدَّولة، وإلَّا تفاقمتِ الخلافات السِّياسيَّة والمشاققات الثقافيَّة واتَّسعتْ هوَّة التجاذبات وسُوء الفَهْمِ وفقدان الثِّقة وارتفاع نسبة الحنق والامتعاض بَيْنَ الطرفيْنِ، فلا يُمكِن بحالٍ من الأحوال أن تبقى نماذج وعي وتفكير وثقافة القيادات والمسؤولين في أيِّ دَولة في القرن الحادي والعشرين على ما هي عَلَيْه بوعي وثقافة وفكر رجعي أو مستهلك أو في أحسن الأحوال غير قادر على مواءمة المصالح الرَّسميَّة مع الشَّعبيَّة.
إذًا نحن اليوم أمام واقع مختلف ومعقَّد في بناء الدوَل والأنظمة المستنيرة واختراع حكومات المستقبل، واقع لا يُمكِن الاعتماد فيه على الفرديَّة في إصدار القرارات والتشريعات، ولا يُمكِن القَبول فيه بالقوَّة الصُّلبة أو الإرغام والتهديدات، إذ يَجِبُ أن تفهمَ فيه الحكومات أنَّ سقف وعي المُجتمع وثقافته وفهمه للمتغيِّرات والمتحولات الداخليَّة والخارجيَّة ـ كما سبَق وقُلنا ـ قد تغيَّر بشكلٍ كبير، ما نتج عَنْه تغيير في التطلُّعات والأهداف والنَّظر إلى الواقع ومجريات الأمور، ما يحتِّم بالضرورة مواكبة ذلك التَّغيير بالاحترام والتقدير والسَّعي للتعامل معه بحكمة وحنكة وبراعة ومقاربة في الوعي الرَّسمي؛ باعتباره ـ أي ذلك الارتفاع في سقف الوعي الجماهيري تجاه قضاياهم الشخصيَّة والوطنيَّة ـ موردًا من موارد قوَّة الدَّولة وليس ضعفًا فيها أو تراجعًا في نفوذها وسُلطتها.
والحقُّ أنَّه كما يؤكِّد ذلك ـ الدكتور محمد خاتمي ـ و»إلى جانب إبداء الرأي وممارسة النقد وعرض المطالب لا بُدَّ من اطلاع الشَّعب على الحقائق بشكلٍ علمي ودقيق، وأن نتحدث له بوضوح وصدق، وحين يكُونُ ثمَّة نقص أو حرمان، أو عِندَما يكُونُ جزء من ذلك الحرمان نتيجة قصور فينا أو ارتكابنا الخطأ فلا بُدَّ من اطلاع الشَّعب على ذلك، وأن نكُونَ واثقِين حينذاك أنَّ الشَّعب سيقدِّر موقفنا، كما أنَّ جانبًا من النَّقص والحرمان يَعُود إلى عوامل خارجة عن دائرة إمكانات الحكومة وصلاحيَّاتها، وحين يطَّلع الشَّعب على ذلك فإنَّه سيُبدي جلدًا أكبر».
أخيرًا أقول: لا بُدَّ من الحذر الشَّديد عِندَ إصدار أيِّ قرار حتَّى وإن كان فيه مصلحة عامَّة، لا أقول إنَّه يَجِبُ ألَّا يتمَّ إصدار ذلك القرار ولكن لا بُدَّ من التَّهيئة والسِّياسة الحكيمة عِندَ طرحه على الرأي العام، الحذر من ترسيخ مفاهيم أنَّ الحكومة كُلُّ همِّها تخفيض الديون ولو كان ذلك على حساب المواطنين، الحذر الشَّديد عِندَ إصدار أي قرار يلامس معيشة المواطنين ومستقبل أبنائهم؛ لأنَّ ذلك يتراكم ليصبحَ مثل الصَّدأ على النَّفْس البَشَريَّة الَّتي يُمكِن أن تصلَ يومًا إلى مرحلة الصَّدأ الَّذي يفقد الإنسان الإحساس بالمسؤوليَّة تجاه أيِّ شيء غير مصالحه الشخصيَّة، الصَّدأ الَّذي سيتسبب بالأنانيَّة المفرطة تجاه كُلِّ شيء، لدرجة فقدان الروح الوطنيَّة.
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
MSHD999 @