قَبل أيَّام، فاجأتني حفيدتي داليا. جاءتْ في وقت غير معتاد، بفستان أزرق عَلَيْه صورة «إلسا» من فيلم فروزن، تجرُّ حقيبة صغيرة بَيْنَ يدَيْها، بَيْنَما كنتُ أنا غارقة في نشرة الأخبار كعادتي. على الشَّاشة، أطفال غزَّة يقفون في طابور طويل، ينتظرون كسرة خبز. ظللتُ أحدق. مشدوهة. حتَّى لمحتُها عِندَ الباب. بسرعة أطفأتُ القناة. لم أفعل ذلك لأنَّ الصوَر مؤلمة فقط، بل لأنَّني كنتُ أعرف.. أسئلتها ستفضح ضعفي.
والله لا أعرف ماذا سأقول لها لو سألتني: لماذا يحدُث هذا؟ ومَن ينقذهم؟ وكيف ينامون؟ لم أكنْ مستعدَّة لأيِّ جواب في الواقع. الحقيقة أنَّنا نحن الكبار ندفن الإجابة في مكان بعيد.. بعيد عن الضوء.
هذه ليسَتْ أوَّل حرب على غزَّة. نعرف أنَّ الصور تتكرر كُلَّ مرَّة: الركام، الصراخ، النعوش الصغيرة. لكن هذه المرَّة مختلفة. صوَر الجوع، الطوابير، الأطفال الَّذين يقفون لساعات من أجْلِ كيس خبز.. شيء فيها يحطمك. لأنَّ الجوع لا يصرخ. لكنَّه يفتك بصمتٍ. لا يحتاج إلى قصف. يكفي أن يُتركوا وحْدَهم، يذبلون أمام أعْيُننا جميعًا.. ببطون خاوية وعيون زجاجيَّة لا نعرف إن كانتْ تنتظر الخبز أم الرحمة؟
حين أطلَّتْ عليَّ داليا، أحسستُ أنَّ ما أراه على الشَّاشة ليس فقط مأساة لهم، بل فضيحة لنا. ماذا بقي من إنسانيَّتنا إذا كان بإمكاننا أن نكملَ يومنا بعد هذه الصوَر؟ كيف أشرحُ لحفيدتي أنَّ طفلًا في مثل عمرها ينام الليلة جائعًا؟ دارت كُلُّ هذه الأسئلة في رأسي وأنا أحدق فيها.. ولم أجدْ أيَّ جملة قد تريحها. ولا حتَّى تريحني.
نحن صرنا نعرف كيف نغيِّر القناة. نعرف كيف نغلق هواتفنا. كيف نقول لأنفسنا: وماذا نستطيع أن نفعل؟ ونتظاهر بالطُّمأنينة. لكن أطفال غزَّة لا يملكون غير شاشة واحدة، مشهد واحد، حياة واحدة. يقفون في الطابور كُلَّ صباح ينتظرون دَوْرهم.
ذلك الصَّباح، وأنا أطفئ الأخبار، أدركتُ أنَّ خوفي لم يكنْ عَلَيْها بقدر ما كان على نَفْسي. كانتْ تحدّق بي وكأنَّها تقول بصمتٍ ما لم أجرؤ أنا على قوله: وأنتِ؟ ماذا ستفعلين لهم؟ وأيُّ نصٍّ ستكتُبينَه عَنْهم هذه المرَّة؟
في عيون أطفال غزَّة شيء يوجعك ولا تعرف كيف تسمِّيه. نظرة لا يُمكِن تفسيرها ولا احتمالها. لا يطلبون شفقة. لا ينتظرون خطابات. فقط أن يعيشوا. أن يأكلوا ويناموا، كما يفعل أيُّ طفل.. كما تفعل وتعيش حفيدتي هنا، دُونَ أن تفكرَ إن كان لها نصيب من الغد.
كُلَّما دخلتْ عليَّ، أشعر أنَّني مدينة لها بجواب. وأكتشفُ، في كُلِّ مرَّة، أنَّ ما يعجزني ليس جهلي بالجواب.. وإنَّما أن لا شيء ممَّا أعرف يصلح أن يُقال. كيف أشرح لها أنَّ ما تراه ليس مشهدًا عابرًا؟ إنَّها حياة كاملة تُهدر أمام أعْيُننا.. ونحن نشاهد.
رُبَّما لا أستطيع أن أوقفَ هذه الحرب. ولا أن أطعمَ كُلَّ هؤلاء الصغار. لكنَّني، على الأقل، أرفض أن أعتاد صوَرهم. أرفض أن أتعلمَ مهارة التبلُّد على حسابهم، أعرف أنَّ ما تكتبه يدي اليوم قد لا يغيِّر شيئًا، لكنَّه ليس صمتًا. أنا أكتب لأوقظ في القلوب شيئًا من إنسانيَّتنا. لأذكِّر نَفْسي والآخرين أنَّنا شركاء في هذا الوجع، وأنَّ الكِتابة ليسَتْ عزاءً، بل موقف.
نبيلة رجب
كاتبة من البحرين