السبت 02 أغسطس 2025 م - 8 صفر 1447 هـ

رأي الوطن : الدقم.. نقلة اقتصادية وفرص سياحية واعدة

الأحد - 27 يوليو 2025 06:30 م

رأي الوطن

40


حين نراجع واقع المنطقة الاقتصاديَّة الخاصَّة بالدُّقم، لن نجدَ في أرقام الاستثمار أو عدد المشاريع وحْدَها ما يكفي لِفَهْمِ حقيقة التَّحوُّل القائم هناك. فالقراءة الأكثر وعيًا تكشف أنَّنا أمام مرحلة جديدة من تطوُّر الفكر التَّنموي العُماني، مرحلة تمزج بَيْنَ تطوير البنية الأساسيَّة، وإعادة صياغة وظيفة المكان، حيثُ تمتلك المدينة إمكانات أكبر من كونها منطقة اقتصاديَّة بخيارات صناعيَّة، حيثُ يجري تقديمها اليوم بوصفها مساحة لصياغة نمط حياة حضري متكامل.. فالاستثمارات الَّتي تجاوزتْ (٨٥٣) مليون ريال عُماني في القِطاع السِّياحي، تُفهم ضِمن هذا الإطار الأوسع، حيثُ يتحوّل الموقع الجغرافي من كونه عنصر دعم لوجستي إلى منطلقٍ لتجربةٍ إنسانيَّة متكاملة، ما نشهده هناك يتجسد من خلال مدينة تحاول بناء علاقة متوازنة بَيْنَ الإنسان والمكان، هذا التَّحوُّل يتطلب منَّا أنْ نقرأَ الدُّقم كمشروع يُعِيدُ طرح الأسئلة القديمة حَوْلَ ماهيَّة التَّنمية، وطريقة تشكيل المُدُن، وحدود العلاقة بَيْنَ الرُّؤية والتَّخطيط والهُوِيَّة. ما يحدُث الآن يعكس رغبة حقيقيَّة في إعادة توزيع خريطة التَّنمية العُمانيَّة، وفْقَ رؤية أكثر عدالةً وتوازنًا، فالتَّوَجُّه نَحْوَ الجنوب الشَّرقي يحمل ضمنيًّا اعترافًا بأنَّ النُّموَّ ينبغي أنْ يتجاوزَ المراكز التَّقليديَّة. حين تُبنى مدينة جديدة بهذه السُّرعة على السَّاحل العُماني، ويُعاد تأهيل البنية المؤسَّسيَّة لخدمة هذا الحراك، تطرح تساؤلات بالغة الأهميَّة حَوْلَ قدرة المُجتمع المحلِّي على مُواكبة هذا الزَّخم، وحَوْلَ ما إذا كانتِ البنية الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة تملك ما يكفي من أدوات التَّأقلم مع التَّغيُّر المتسارع، فالتَّوَسُّع الحضري في حدِّ ذاته لا ينتج مُدُنًا حقيقيَّة، ما لم يترافقْ مع استثمار موازٍ في الإنسان، وفي شبكات الانتماء، وفي تكوين ذاكرة للمكان. ولعلَّ الدُّقم تحتاج ـ بجانب الهندسة المعماريَّة ـ إلى هندسة مُجتمعيَّة تشرك النَّاس في سرديَّتها، وتحوّلهم من متفرِّجين على التَّحوُّل إلى شركاء في صناعته.

أمام هذا المشهد المتسارع، تبدو المشاريع السِّياحيَّة القائمة كجزء من حراك أكبر لا يزال في طور التَّشكُّل، فالنُّمو المُعلَن عَنْه لا يعني بالضَّرورة جاهزيَّة السُّوق لامتصاصه بكفاءة، ولا يُشير دائمًا إلى توازن بَيْنَ العَرض والطَّلب، وعِندَ مراجعة تفاصيل المشروعات الَّتي اكتملتْ مقارنةً بتلك الَّتي ما زالتْ في طور الانتظار، أو لم تبدأْ بعد، يتبَيَّن أنَّ التَّحدِّيات التَّنفيذيَّة حاضرة بقوَّة، وأنَّ الرُّؤية ـ رغم قوَّتها ـ تحتاج إلى إسناد واقعي أكثر مرونةً، لا تكفي الحوافز وحْدَها لإنجاح هذا النَّوع من المشاريع؛ لأنَّ السِّياحة تُبنى على المَرافق، وعلى القدرة على تقديم تجربة تستحق التّكرار.. فحين يغيب التَّفاعل بَيْنَ الزَّائر والمكان، تُصبح الرِّحلة زيارة عابرة لا تترك أثرًا، ولا تُعِيد تشكيل الذَّاكرة. وبجانب الجهود الَّتي تبذل، يَجِبُ صياغة تجربة تستند إلى جَمالها الطَّبيعي من جهة، وإلى ذكاء إدارة هذا الجَمال من جهة أخرى، بحيثُ لا تكُونُ السِّياحة مشهدًا خارجيًّا، بل علاقة داخليَّة تستدعي العودة.

تبقَى النُّقطة الأهمُّ مرتبطةً بالهُوِيَّة العُمانيَّة، إذ إنَّ مستقبل الدُّقم السِّياحي لن يصاغَ من خلال المقارنات، ولا محاولات محاكاة تجارب إقليميَّة قائمة، لكن من خلال القدرة على إنتاج سرديَّة عُمانيَّة خاصَّة، فالدُّقم تملك ما يُمكِّنها من أنْ تقدِّمَ نَفْسها بوصفها وجهةً فريدة، لم تستهلكْ بصريًّا، ولم تفرغْ ثقافيًّا، ولا تزال تحتفظ بجَمالها الخام، والطَّبيعة الصَّافية، الشَّواطئ المُتنوِّعة، المواقع البيئيَّة غير الملوَّثَّة، كُلُّها عناصر قادرة على حمل مشروع سياحي متكامل. ولعلَّ حملة (مُر عَلَيْنا) يُمكِن أنْ تتحولَ إلى منصَّة لصياغة هذه القصَّة، شريطة أنْ تُروى بلُغة عُمانيَّة أصيلة؛ فالزَّائر حين يأتي إلى مدينة تحمل هُوِيَّة صادقة، يَعُود مِنْها حاملًا لِمَا هو أكثر من صورة، يَعُود وفي داخله امتداد حقيقي للمكان، وحين يتحقق ذلك، يُصبح الاستثمار في السِّياحة جزءًا من استثمار أعمق في الذَّاكرة الوطنيَّة.