ما الَّذي يعنيه لنا مستقبل العقل؟ وهل ينفصل مستقبله عن الإنسان الَّذي يحتويه؟ وما الفرق بَيْنَ العقل والدماغ؟ وما هي الانعكاسات والنتائج الَّتي سيتوصل لها العِلم من التجارب والدراسات والاكتشافات المرتبطة بالعقل، من حيثُ منافعها ومضارها على الإنسان؟ ما أهميَّة هذه الدراسة، وإلى أين تقودنا هذه الثورات العلميَّة الَّتي تتطلع إلى فهم العقل و»تطويره وتقويته» وتعظيم فاعليَّته؟. «مستقبل العقل.. الاجتهاد العلمي لفهمِ العقل وتطويره وتقويته»، عنوان يلفت النَّظر ويشدُّ الفضول ويحفِّز الباحث والقارئ على استطلاع مادَّته، وما يتناوله من أسرار ويكشف عَنْه من بحوث ومشاريع تجريبيَّة لدراسة العقل وفَهْم آليَّات عمله وارتباطاته بأعضاء الجسد.. وبالأخص إذا تعمقنا في سِيرة مؤلِّفه والإنجازات الَّتي توصَّل إِلَيْها والأعمال العلميَّة الَّتي قدَّمها للمكتبة، إنَّه «ميشيوكاكو»، صاحب «المقدرة العلميَّة والموهبة في تقديم أحدَث البحوث والابتكارات في مجالات العلوم كُلِّها بشكلٍ مشوِّق وأُسلوب ممتع بسيط... فمنذُ صدور كِتابه «رؤى مستقبليَّة»، مرورًا بكِتابه الآخر عن «مستقبل الفيزياء»، وصولًا إلى كِتابه الحالي عن مستقبل العقل، نرى كاكو مشغولًا دومًا بآخر الابتكارات والبحوث العلميَّة، وما يُمكِن أن يتوصلَ إِلَيْه العِلم في المستقبل، وتأثير ذلك في حياتنا ووجودنا من كُلِّ النواحي الاجتماعيَّة والفكريَّة والمعيشيَّة والثقافيَّة...». يلفت مترجم الكِتاب الأستاذ «سعد الدين خرفان»، نظرنا إلى أنَّ محتواه «يتحدث عن الأبحاث الَّتي تَدُوْر بشكلٍ متسارع وكثيف لكشف أسرار العقل. فقد بقي الدماغ سرًّا مغلقًا آلاف السنين. احتقره الفراعنة ورموا به في سلَّة القاذورات أثناء التحنيط. واعتبر أرسطو أنَّ الروح تكمن في القلب، وأنَّ وظيفة الدماغ هي تبريد الأوعية الدمويَّة فقط..». عظمة العقل، والإبداع الإلهي في صنعه، والمهام الدقيقة متناهية الصِّغر والجليلة الَّتي يؤدي بها وظائفه، وما يصطبغ مهامّه من دقَّة وتنظيم فائقتين، والدقائق والرقائق الَّتي يشتغل بها، ممَّا أبهر العلماء، وما زالتْ تقدِّم المزيد من الإدهاش والإعجاز كُلَّما تطوَّر العِلم وقدَّمتِ التجارب والأبحاث المزيد من نتائج الاكتشاف... «العقل والكون هما أعظم سرَّيْن من أسرار الطبيعة كُلِّها. ومع التقدم الواسع في تقنيَّتنا، تمكنَّا من تصوير مجرَّات تبعُد عنَّا مليارات السنين الضوئيَّة، والتصرُّف بالجينات الَّتي تتحكم في الحياة، وتفحص المسار الداخلي للذرة، لكنَّ العقل والكون ما زالا يفلتان منَّا، وما زالا يثيران دهشتنا. إنَّهما الجبهتان الأكثر غموضًا وإثارة في العِلم. لو أردتْ تقدير عظمة الكون، فقط جُل ببصرك في السَّماء الَّتي تتلألأ بمليارات النجوم في الليل. منذُ أن دهش أسلافنا لأوَّل مرَّة بروعة السَّماء المليئة بالنجوم، أثارتْ هذه الأسئلة الخالدة حيرتنا: من أين أتى هذا كُلُّه؟ وماذا يعني؟ لمعرفة سر عقلنا، ما عَلَيْنا سوى أن ننظرَ إلى صورتنا في المرآة ونتساءل: ما الَّذي يقبع خلف أعْيُننا؟ يثير هذا أسئلة مقلقة مثل: هل نمتلك روحًا؟ ما الَّذي يحدُث لنا بعد موتنا؟ مَن «أنا» على أيِّ حال؟ والأكثر أهميَّة، فإنَّ هذا يأخذنا إلى السؤال النهائي: ما موقعنا في المخطط الكوني العظيم؟.. هناك (١٠٠) مليار نجم في مجرَّة درب التبَّانة، وهذا هو تقريبًا عدد العصبونات في دماغنا. رُبَّما عَلَيْك أن تسافرَ (٢٤) تريليون ميل إلى أوَّل نجم خارج منظومتنا الشمسيَّة، للعثور على جسم له التَّعقيد نَفْسه لهذا الَّذي يقبع فوق كتفك...». يحتشد الكِتاب بخرائط علميَّة دقيقة، تشرح وظائف الدماغ، والمهام الَّتي يختص كُلٌّ مِنْها بعمل ما، والَّتي تتحكم وتُعالج وتنظِّم أعضاءنا وترتِّب وتصنِّف ذكرياتنا من حيثُ الأهميَّة والزَّمن، وتشكِّل حافظة أو هُوِيَّة شخصيَّاتنا وأنماط تفكيرنا، وروابط الدماغ وآليَّات أداء عمله لتشغيل شبكات السَّمع والبصر والشَّم والسُّلوك، وكُلِّ ما يتعلق بالمشاعر والأحاسيس.. والَّتي تصبغ على كُلِّ واحد من البَشَر خصائصه وطبائعه وهواياته، وتؤكد على مركزيَّة المخ في جسد الإنسان عَبْرَ شبكة العصبونات المعقدة.. كما عرَض «ميشيوكاكو»، لمراحل الاكتشافات العلميَّة الخاصَّة بالعقل، والَّتي ظهرتْ في البداية ـ أي قَبل مئتي سنة ـ مصادفة، عِندَما نفذ مسمار طوله (٣) أقدام، من الجزء الأمامي لدماغ أحد عمال سكك الحديد، فتطاير جزء من الدماغ، وكان الحدث مدهشًا لكُلٍّ من زملاء العمَّال والطبيب الَّذي هرع إلى المكان؛ لأنَّ العامل لم يمُتْ في موقع الحادثة. وعلى أثَر ما كشفت عَنْه من نتيجة مذهلة، توالتِ التجارب والاكتشافات، وبعضها كذلك كان مصادفة، فعِندَما لمس الطبيب «منطقة معيَّنة من نصف الدماغ، ارتعش الجزء المقابل من الجسم»، وتأكد لاحقًا بعد التجربة، بأنَّ «النصف الأيسر من الدماغ تحكم في الجانب الأيمن من الجسم». وفي مرحلة زمنيَّة ثالثة، «لاحظ الدكتور «بينفيلد»، «أنَّه عِندَما حرَّض مناطق معيَّنة من قشرة الدماغ بقطب، استجابتْ أطراف مختلفة من الجسم». من التجارب المهمَّة كذلك، عِندَما تمَّ «تحريض أجزاء من الفص الصدغي عاد المرضى فجأة لتذكُّر ذكريات نسوها منذُ زمن بطريقة واضحة جدًّا». وفي إطار التقدم العلمي المتواصل، «أوضحت مسوحات الـMRI قدرتها الفائقة على تحديد أجزاء صغيرة جدًّا من الدماغ». لماذا يكُونُ بعضنا أكثر تعقلًا وواقعيَّة وتقبلًا للنَّكبة والألم، والتجاوب معها وتجاوزها بسرعة، يتسمون بالمرح وروح الفكاهة، والقدرة على خلق فضاءات من السعادة، فيما يغرق آخرون في أجواء الكآبة والضيق والحزن والتشاؤم؟ لماذا ينام بشر بعمق وعَلَيْهم ديون بملايين الريالات، فيما يجافي أناس الرقاد ويتناوشهم القلق، لأنَّهم مديونون بمئات الريالات فقط؟ يصاب إنسان بمرض فيشفى مِنْه، وآخر يقضي عَلَيْه بالموت... هذا التباين والاختلاف في المشاعر والأحاسيس والآراء والملامح وأساليب التفكير ومساراتها مردها إلى المخ، والعلماء يجرون التجارب والأبحاث ويعلنون عن الاكتشافات العلميَّة الخاصة بالعقل، لمعالجة مشكلات الإنسان النفسيَّة وتعزيز وتعظيم المشاعر والجوانب الإيجابيَّة فيه والتخفيف من السلبيَّات.. «هناك مجموعة واسعة ومميزة من التجارب الَّتي تجرى الآن في علم الأعصاب والَّتي تغيّر بعُمق المشهد العلمي بكامله. باستخدام قوَّة الكهروطيسيَّة، يُمكِن للعلماء الآن أن يتفحصوا أفكار النَّاس، ويبعثوا برسائل تخاطريَّة عن بُعد، ويتحكموا في الأشياء بتحريكها حَوْلَنا بواسطة الدماغ وأن يسجلوا الذكريات ورُبَّما أن يطوروا ذكاءنا...». تطور أبحاث دراسة الدماغ، وفك شيفرة المزيد من أسراره، أوصل إلى النجاح في «إصلاح أعطاب النخاع الشوكي ـ صناعة وتطوير الأطراف الصناعيَّة» ـ الاتصال بالدماغ والعيش في عالَم افتراضي المعالجة ـ مواصلة الدراسات والتجارب لتمكين البشر مستقبلًا من المشاركة وتبادل الأفكار عَبْرَ قراءة الجسد. فعلى «المدى القصير، رُبَّما تخفف هذه التطورات المثيرة جميعها الَّتي تجري في مختبرات حَوْلَ العالَم معاناة المصابَيْنَ بالشلل والأمْراض المعقدة الأخرى. باستخدام قوَّة عقولهم، سيتمكن هؤلاء من التَّواصل مع أحبائهم، والتحكم في كراسيهم المتحركة وأسرَّتهم، والسير بأطراف ميكانيكيَّة موجهة عقليًّا، واستخدام الأدوات المنزليَّة، والتمتع بحياة شبه عاديَّة..». ويظل السؤال مفتوحًا بعد قراءة لأيِّ دراسة علميَّة من هذا النوع: أين موقع العرب من هذه الثورات العلميَّة، دراساتها وأبحاثها وتجاربها ومنتجاتها..؟
سعود بن علي الحارثي