تُمثِّل الإجازة الصيفيَّة مساحة وقتيَّة مهمَّة في بناء شخصيَّة الأبناء وتعزيز قدراتهم وصقل مواهبهم، خصوصًا في ظل تزايد الآمال والطموحات الَّتي باتتْ تعلق على فترة الصيف في بناء سلوك الأبناء؛ نظرًا لأنَّ الكثير من الممارسات والقناعات الَّتي تتولد لدى الأبناء ويسقطها على العام الدراسي الجديد لها علاقة بتأثير الإجازة الصيفيَّة والصورة الأخرى الَّتي أنتجتها في ذاته حَوْلَ نَفْسه وعلاقاته وبيئته ومحيطه الاجتماعي، وقد تكُونُ أكسبته الخصال والقِيَم والمبادئ والمهارات الَّتي يستفيد مِنْها في انطلاقته القادمة، أو أن تكُونَ لها تبعاتها على شخصيَّة الأبناء فيتقمص الأفكار الَّتي رسمها الأصدقاء والصورة الَّتي استنطقها زملاؤه فيها.. ولأنَّ الفراغ من أكثر الفرص لنُمو الممارسات غير المنضبطة في حياة الأبناء، لذلك باتَ الحديث اليوم عن الإجازة الصيفيَّة والاهتمام الوطني بإيجاد موجّهات تدريبيَّة ومسارات تعليميَّة وفكريَّة وثقافيَّة واجتماعيَّة تؤسِّس في شخصيَّة الأبناء فكرة التغيير الإيجابي والتحسين النوعي وتتيح له فرص تجريب الخيارات والنقد وغيرها.
على أنَّ طبيعة احتياجات الأبناء المتسارعة والمتغيرة من النَّاحية الترويحيَّة والمهاريَّة والفكريَّة وإعداده للتعامل مع المواقف وآليَّة التصرف فيها، وبناء قدراته للتكيف مع المستجدات والمتغيرات، وتوجيهه إلى الاستثمار في الإجازة الصيفيَّة عَبْرَ استغلال وقت الفراغ وبناء قدراته في إدارة مشروعه الاقتصادي، والإفصاح عن مواهبه، يفرض مسارات تحول تصنعها الأُسرة ـ أحَد المؤثرين الفاعلين في شخصيَّة الأبناء ـ وتؤسّسها في طريقة الممارسة اليوميَّة، وتعزيز الفكر الإيجابي لدى أبنائها في إطار الوقاية والإثراء والوعي وبناء النماذج داخل الأُسرة، والثقة وإعادة إنتاج السُّلوك الأُسري بشكل يحتفظ بدرجة عالية من حضور الأبناء في العمليَّات الداخليَّة للأُسرة وتحمُّل المسؤوليَّة في التعامل مع كومة المعطيات الَّتي تنتجها الإجازة الصيفيَّة، بحيثُ تتجه جهود الأُسرة نَحْوَ إنتاج بيئة مصغرة للإجازة الصيفيَّة وطريقة التعامل معها في ظل مراعاتها لظروف الأُسرة الماليَّة وحجم الاستطاعة لدَيْها في إطار من التَّوازنات بَيْنَ إرضاء الأبناء بالاستمتاع بالإجازة وتوفير الخيارات لهم وبَيْنَ اقتناعهم بالصورة الَّتي سيتمُّ التعامل بها مع الإجازة بِدُونِ تكلُّف أو تصنع في غير مقدرة، مع الاستفادة من كُلِّ الفرص والفعاليَّات الاجتماعيَّة والترفيهيَّة والترويحيَّة المتاحة في الواقع، والَّتي يحتاجها الأبناء في استغلال إجازتهم بشكلٍ أفضل وصورة أجمل وقعًا وأكثر أثرًا.
وبالتالي ما يطرحه هذا الأمْر على الأُسرة من موجّهات في توظيف الفرص المتاحة لصالح الأبناء وخلق منصَّات متجدِّدة في إحداث نقلة نوعيَّة في سبيل استغلال أوقات الإجازة بصورة أفضل، وإدماج الأبناء في حياة الأُسرة والمُجتمع واشراكهم في تفاصيل الصيف خاصة تلكم المتعلقة بمشاركة الأبناء في حصاد التمور واللقاءات العائليَّة وزيارة الأرحام والسفر والتنقل والسياحة والَّتي تزيد من عمق التَّواصل الفكري والنفسي والاجتماعي في نطاق الأُسرة، وتقديم نماذج عمليَّة تتيح للأبناء فرصًا أكبر في الاقتراب من الوالدين وفَهْم الرغبات والدوافع والحقوق والواجبات بما يُعَبِّر عن رغبة صادقة من الأُسرة وقناعة ذاتيَّة بتقديم الأفضل وبإنجاز يفوق المتوقع، ولعل النَّاظر إلى ممارسات الأُسر في الإجازة الصيفيَّة وما فيها من احتواء لأبنائهم يدرك كيف يُمكِن أن تصنع الأُسرة من استنطاق القِيَم النوعيَّة في تشكيل شخصيَّة الأبناء وإثراء حياتهم وتعويدهم على السَّمت العُماني وقِيَم الآباء والأجداد.
إنَّ حرص الأُسر اليوم على تربيَّة الأبناء أولويَّة يَجِبُ أن تدرك وأن لا تنظر إلى ما يثار حَوْل الإجازة من تصوُّرات ذهنيَّة خارج القدرات والاستعدادات، والَّتي باتتْ تضع الكثير من الأُسر في واقع صعب ومواجهة أصعب مع الأبناء؛ نظرًا للصورة الشائعة في المُجتمع من ارتباط الإجازة بهاجس السفر والسياحة، لذلك يبقى دَوْر الأُسرة اليوم في اعتماد تأخذ بأفضل المعايير والأدوات والأساليب التربويَّة والتعليميَّة، والمنهجيات القائمة على صناعة التَّوازنات وخلق التكامليَّة والديناميكيَّة في بناء شخصيَّة الأبناء، وهي محطَّة مهمَّة تقوم بها الأُسرة والمُجتمع لضمان تقديم صورة نموذجيَّة للأبناء من غير إفراط ولا تفريط ومن غير مغالاة ولا تقتير بما يصنع من الإجازة روحًا تواصليَّة وحوارات داخليَّة تعزز من مفهوم معايشة الفكرة ودراستها، وإبداء الرأي حَوْلَها للوصول إلى الهدف بدلًا من سياسة فرض الرأي أو تبرير الموقف بتعسر الظروف وقسوة الوضع المعيشي.
وإنَّ من بَيْنِ الأمور الَّتي يُمكِن الإشارة إِلَيْها في سبيل تعزيز هذا الدَّوْر المحوري للأُسرة في التعامل مع معطيات الإجازة الصيفيَّة وخلق روح التضامن وحسّ الدافعيَّة لدى الأبناء في حس استغلالها والاستفادة من الفرص الَّتي أتاحتها مؤسَّسات الدولة والمتمثلة في انتشار البرامج الصيفيَّة وتنوعها في مختلف محافظات سلطنة عُمان، الأمْر الَّذي يُبقي مسار تنويع البدائل والتَّوسُّع في الخيارات وفرص الاستمتاع حاضرة؛ تنشيط دَوْر المساجد ومدارس القرآن الكريم والمراكز الصيفيَّة في حلقات القرآن والذكر والتلاوة وأحكام التجويد، وبرامج العقيدة والفقه الَّتي تتعلق بتعليم الأبناء قِيَم الصلاة ومبادئها وشروطها، وكذلك أصول المعاملات التجاريَّة والمشروعات الاقتصاديَّة، بأُسلوب أكثر تشويقًا وترغيبًا، يقوم عَلَيْها أهل الاختصاص، وتُقدَّم من خلالها نماذج تعليميَّة متنوعة وطرائق تعليم وتعلُّم مجرَّبة. بالإضافة إلى بناء قواعد للعمل والتعامل داخل الأُسرة يقوم على التخطيط الأُسري السليم، وتحديد المهام والمسؤوليَّات لكُلِّ فرد، بما يسهم في ترسيخ ثقافة التكامل الأُسري، وتعزيز روح التفاعل والمشاركة الجماعيَّة. ويُعَدُّ ذلك أساسًا لإطلاق برنامج أُسري متكامل يُشجّع الأبناء على استثمار أوقات الإجازة في التعليم والتعلم وتنمية المواهب والابتكار، إلى جانب الانخراط في أنشطة رياضيَّة وثقافيَّة واجتماعيَّة بمشاركة أقرانهم من أبناء الحي، تحت إشراف مختصين في المجالات ذات الصلة. ومن خلال هذا التفاعل المنظَّم، تتاح فرص حقيقيَّة لتوليد بدائل مبتكرة داخل الأُسرة، وتعزيز روح التنافس الإيجابي، وتنوع الأدوات، وتحقيق استمراريَّة الأداء، بما ينعكس إيجابًا على الاستقرار الأُسري. كما يسهم ذلك في بناء الشخصيَّة وتنمية الذَّات وصقل الموهبة وتعظيم فرص النُّمو المعرفي والمهاري، لِتصبحَ الإجازة الصيفيَّة بيئة فاعلة لاستنطاق القِيَم وترسيخ المبادئ، ووقايَّة من السلوكيَّات السلبيَّة النَّاتجة عن الفراغ أو ضعف التَّوجيه. إنَّ استشعار كُلِّ فرد في الأُسرة لِدَوْره في التعاون والتكامل يصنع فارقًا واضحًا في مخرجات الأُسرة التربويَّة والمُجتمعيَّة، ويقدِّم نموذجًا يُحتذى في ثقافة المسؤوليَّة والعمل المشترك، كما يرفع من سقف الثقة والاحترام لتوجّهات الأُسرة وبناء المشتركات واستشعار الأبناء لكُلِّ الظروف والمتغيِّرات الَّتي تعيشها الأُسرة في تحقيق أحلامهم ورغباتهم الشخصيَّة، فتقل توقعاتهم حَوْلَ السفر والسياحة خارج سلطنة عُمان، كما تزيد لدَيْهم مساحة الاستمتاع بالفرص الترفيهيَّة الداخليَّة كالمتنزهات والمواقع السياحيَّة داخل سلطنة عُمان من غير خريف ظفار السياحي.
أخيرًا، فإنَّ استغلال الإجازة الصيفيَّة بهذا المعنى ليس حالة تعجيزيَّة أو صعبة التحقق والمنال كما يظن البعض، بأنَّها بحاجة إلى المال والدَّعم وتذاكر السفر وغيرها الَّتي تساند الأُسرة في تحقيق الإجازة الصيفيَّة، وهو أمر ـ وللأسف الشديد ـ باتَ الكثير من الأُسر لا تدرك معناه إلَّا عَبْرَ السفر والسياحة والتنقل خارج سلطنة عُمان أو على الأقل بالذهاب إلى خريف ظفار، ومن لم يفعل ذلك فكأنَّه لم يعِشْ تجربة الإجازة الصيفيَّة، فإنَّ هذه المفاهيم المغلوطة الَّتي حملت الكثير من التضييق على النَّاس في ظل تباين ظروفهم الاقتصاديَّة والمعيشيَّة، وعطَّلت في المقابل حرص الوالدين والأُسرة على استغلال التفاصيل البسيطة والمتوافرة لدَيْهم من أجْلِ احتواء عائلي وشعور الأبناء بأنَّهم يعيشون الإجازة في كنف الأُسرة واحتوائها؛ فإنَّ استشعار هذه التكامليَّة والشراكة عَبْرَ تعظيم حوار الأبناء ومشاركتهم في القرار الأُسري وتأكيد حضورهم في رسم استحقاقات الإجازة الصيفيَّة؛ سوف يعيد تصحيح الصورة الذهنيَّة السلبيَّة عن الإجازة الصيفيَّة والإطار الضيق الَّذي باتتْ تقرأ فيه، على أنَّها للسفر والتنقل في وجهات سياحيَّة خارج سلطنة عُمان، وهو أمْر باتتِ النَّاس تتحدث عَنْه دُونَ مراعاة لمشاعر الآخرين، أين ذهبت في الإجازة؟ وما هي وجهتك خارج سلطنة عُمان؟ وكأنَّ الإجازة الصيفيَّة لا تتحقق ولا قِيمة لها إلا بالسفر؛ لتكن سياحتنا في بلادنا ولتكن الإجازة الصيفيَّة محطَّات روحيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة وتعليميَّة وسياحيَّة داخل سلطنة عُمان، تصنع التغيير وتبني الأثر الَّذي سيبقى حاضرًا في ذاكرة الأبناء، فيما قدَّمته لهم إجازة الصيف من أمن وأمان، وسلام واستقرار، واحتواء عائلي، ورعاية أُسريَّة، وفرصة نوعيَّة استثنائيَّة في التعلم المستدام والمعرفة واكتساب المهارات واكتشاف المواهب.
د.رجب بن علي العويسي