السبت 02 أغسطس 2025 م - 8 صفر 1447 هـ

في الحدث : الحداثة المفاهيمية .. الاقتصاد الدائري نموذجا

في الحدث : الحداثة المفاهيمية .. الاقتصاد الدائري نموذجا
السبت - 26 يوليو 2025 01:25 م

طارق أشقر

30

المتابع للتطور الدراماتيكي للتفكير الإنساني كُلٌّ حسب جيله وعصره، لا بُدَّ له أن يلحظ الجديد الَّذي يتطلب المواكبة وإعمال العقل لأجْل حياة أفضل. ومن بَيْن ما يعاصره جيلنا الحاضر هو الحداثة المفاهيميَّة الَّتي لم تتركْ مفهومًا تقليديًّا إلَّا ولامست كيانه، إذ إنَّ الحداثة المفاهيميَّة هي مصطلح يعني التحوُّل المعرفي نَحْوَ الإسهام في إعادة بناء المفاهيم المألوفة السائدة ولربَّما استبدالها بمصطلحات جديدة نابعة من مستجدَّات التقدُّم العلمي والتقني. ويَدُوْر حاليًّا بكواليس الهيئات البحثيَّة والأكاديميَّة والمؤسَّسات الَّتي تطبق ما يستجد من مبادرات تعود بالنفع للشعوب، العديد من المفاهيم الاقتصاديَّة المستحدثة مثل مفهوم الاقتصاد الدائري والاقتصاد الأخضر والاقتصاد الرقمي واقتصاد المعرفة والاقتصاد الأزرق والاقتصاد التشاركي وغيرها. تأتي النماذج الاقتصاديَّة أعلاه ضمن الحداثة المفاهيميَّة في عالَم الاقتصاد محدِثة نقلةً مفاهيميَّة نوعيَّة في حين سيطرت نماذج اقتصاديَّة علميَّة متوارثة حتَّى وقت قريب وما زالتْ راسخة في أكاديميًّا، مثل مفاهيم الاقتصاد التقليدي والاقتصاد الرأسمالي الحُر والاقتصاد الاشتراكي الموجَّه والاقتصاد المختلط. ونستعرض بهذا المقال بشكلٍ أكثر تفصيلًا مفهوم الاقتصاد الدائري كنموذج من نماذج الحداثة المفاهيميَّة بالمجال الاقتصادي، وذلك لتعريف القارئ المتعطش للتعمق في كثير من المصطلحات الَّتي ترددت على مسامعه وعَبْرَ وسائل الإعلام المختلفة. وحسب الأكاديميين، يسعى نموذج الاقتصاد الدائري لمحاربة هدر استخدام الموارد، مع الحرص على إعادة استخدامها عَبْرَ عمليَّات التدوير وإعادة التصنيع من جديد لأجْلِ إطالة عمر المنتجات للاستفادة المثلى مِنْها. وقد بدأ مفهوم الاقتصاد الدائري بالانتشار بأوائل الألفية فيما حظي بالزخم العالَمي في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فيما تم تسليط الأضواء عَلَيْه بشكلٍ أوسع بالمنتدى الاقتصادي العالَمي في دافوس بسويسرا عام 2018 عَبْرَ تكوين ما عُرف بتحالف «بيس» ـ «التحالف من أجل العمل المناخي والبيئة» في تعاون بَيْنَ المنتدى الاقتصادي العالَمي وبرنامج الأُمم المُتَّحدة للبيئة كمبادرة تهدف لتسريع التحول نَحْوَ اقتصاد دائري عالَمي. ويتوقع من تبنِّي نموذج الاقتصاد الدائري جني العديد من المكاسب الاقتصاديَّة أبرزها تقليل تكلفة العمليَّات الإنتاجيَّة وتقليل الاعتماد على المواد الخام المستوردة عَبْرَ زيادة الاعتماد المواد الخام المحليَّة والاستفادة مِنْها بطريقة مثلى، وتعزيز الاستفادة من المحتوى المحلي، وتوسيع إنشاء قِطاعات إنتاجيَّة جديدة عَبْرَ اعادة التدوير وإعادة الاستخدام. ومن مكاسب تبنِّي هذا النموذج أيضًا بأنَّه يحفِّز الاندفاع نَحْوَ الابتكار في تصميم المنتجات والعمليَّات الصناعيَّة، فضلًا عن إسهامه في الإيفاء بالالتزامات البيئيَّة المناخيَّة عَبْرَ الحرص على تقليل النفايات والانبعاثات، وصولًا إلى الحياد الصفري. كما يُمكِن أن يسهمَ تطبيق نموذج الاقتصاد الدائري في تخفيض المعدل التراكمي للنفايات اليوميَّة كنتيجة لعمليَّات المعالجة وإعادة التدوير وتحسين إدارة النفايات. لذلك يَجِبُ عدم استهجان سلوك من يقومون كأفراد بالفرز السريع والخفيف في مكبات القمامة مستخدمين دراجات هوائيَّة، فمِنْهم مَن ينتقي الكرتون المستخدم بعناية، ومَن يختار العلب المعدنيَّة، أو البلاستكيَّة والزجاجيَّة والعبوات الفارغة للمشروبات وغيرها. ورغم تحفظ الكثيرين على مثل هذا السلوك الفردي كونه خارج المنظومة البيئيَّة المدروسة والمنظمة، إلَّا أنَّه في المجمل يُعَدُّ أحَد مؤشِّرات الوعي بمردودات الاقتصاد الدائري وهو وعي يُمكِن تطويره بشكلٍ مؤسَّسي أوسع. وعلى المستوى المؤسَّسي نشير إلى أنَّ سلطنة عُمان تتبنى نموذجًا عمليًّا لمفهوم الاقتصاد الدائري مستندًا إلى أُسُس نظريَّة علميَّة وتطبيقات عمليَّة مدروسة ذات نتائج بيئيَّة واقتصاديَّة وتنمويَّة إيجابيَّة، حيثُ تؤدي الشَّركة العُمانيَّة القابضة لخدمات البيئة «بيئة» دَوْرًا يشار إِلَيْه بالبنان في هذا المجال. ويأتي الاهتمام بهذا النموذج في وقت يُعَدُّ فيه الاقتصاد الدائري والتَّنمية المستدامة من مستهدفات رؤية «عُمان 2040» الَّتي تهدف لتحقيق التَّوازن بَيْنَ المتطلبات البيئيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة من خلال تبني مبادئ التنميَّة المستدامة بما في ذلك التحوُّل نَحْوَ اقتصاد دائري منخفض الانبعاثات الكربونيَّة. ومن أبرز مشاريع الاقتصاد الدائري بسلطنة عُمان ـ كأمثلة وليس للحصر ـ هناك منشأة تحويل النفايات إلى طاقة بولاية بركاء، ومحطَّة الغاز الحيوي بجامعة السُّلطان قابوس، ومركز الخليج الأخضر لإعادة تدوير النفايات الإلكترونيَّة بصلالة، وغيرها الكثير من المشاريع الرائدة بالبلاد.

وعَلَيْه وكيفما توالى ظهور المفاهيم الحداثيَّة بالمجال الاقتصادي وغيره، فإنَّ هذا التَّوالي هو نتاجات للتفكير الإنساني وتأكيدًا على رغبة الإنسان في مواكبة التطور في كُلِّ ما يُعزِّز رفاهيَّته.

طارق أشقر

[email protected]

من أسرة تحرير «الوطن»