الثلاثاء 29 يوليو 2025 م - 4 صفر 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : الاعتراف ضروري رغم تأخره.. لكنه غير كاف

السبت - 26 يوليو 2025 06:30 م

رأي الوطن

40


يأتي إعلان فرنسا عن نيَّتها الاعتراف بدَولة فلسطين كحجرٍ يُلقى في المياه الرَّاكدة، فنحن ندرك أنَّ الاعتراف ـ رغم ضروريَّته ـ لن يغيِّرَ شيئًا على الأرض؛ ذلك أنَّ حرب الإبادة مستمرَّة وشهداء الجوع في قِطاع غزَّة لا يزالون يسقطون، والبيوت ما زالت تهدم، والغارات مستمرَّة، والاحتلال الصُّهيوني لا يشعر بأيِّ تهديد من قرار دبلوماسي جاء بعد سنوات من الصَّمت والتَّجاهل، ومع ذلك لا يُمكِن إنكار أنَّ لهذا الاعتراف معنى، حتَّى لو لم يحمل أثرًا مباشرًا، هو إشارة إلى أنَّ بعض الدول الغربيَّة بدأتْ تشعر بأنَّ الصَّمت لم يَعُدْ مُجديًا، وأنَّ التَّوازن الَّذي كانتْ تحاول الحفاظ عَلَيْه انهار أمام مشاهد القتل والتَّجويع. وفرنسا لم تتَّخذْ هذا الموقف بدافع الشَّفقة، ولا من باب الالتزام الأخلاقي، إنَّما لأنَّها تدرك أنَّ الرَّأي العامَّ لم يَعُدْ يحتمل خِطاب المراوغة، وهذا الاعتراف ـ رغم تأخُّره ـ يُربك حلفاء الاحتلال، ويفتح الباب أمام دول أخرى كانتْ تنتظر مَن يتجرأ أوَّلًا، فلا أحَد يتوقع أنْ يتراجعَ الاحتلال بسبب بيان، لكنَّ قوَّة الاعتراف تكمن في أنَّه يُعِيد النِّقاش إلى أصلِه، وهناك أنَّ شَعبًا يُحرم من دَولته، والعالَم لم يَعُدْ يملك مبررًا مقنعًا للصَّمت.

ولعلَّ الموقف العُماني يُعَدُّ من أكثر المواقف تعبيرًا عن الضَّمير العالَمي، فلم يكُنِ الموقف العُماني من فلسطين يومًا مرتبطًا بتغيُّرات المشهد السِّياسي، أو بحسابات دقيقة للمصالح، لكنَّه موقف ثابت لا يتوارى أمام حياد مصطنع، خوفًا من تأثُّر علاقاته من حماة الكيان الصُّهيوني، فهو موقف اختار أنْ ينحازَ لِمَا يراه حقًّا واضحًا، لا يحتاج إلى تبرير. فحين رحَّبتْ سلطنة عُمان بالإعلان الفرنسي كان تعبيرًا عن نهجٍ مستمر لا يتراجع أمام الضُّغوط، والرِّسالة الَّتي قدَّمتها عُمان للعالَم كانتْ بسيطة، لكنَّها واضحة تؤكِّد أنَّ مَن يؤمن بحلِّ الدَّولتين لا يكتفي بالتَّصريحات، وإنَّما عَلَيْه أنْ يعترفَ بالدَّولة الفلسطينيَّة بوصفها واقعًا يَجِبُ أنْ يبنى، لا وعدًا يؤجَّل كما اعتاد المُجتمع الدولي التَّعامل معه، وهو موقف راسخ غير متردِّد، لم يكُنِ استثنائيًّا في لحظةٍ مُحدَّدة، وإنَّما كان امتدادًا لسياسة ترَى أنَّ العدل لا يُمكِن تجزئته بحسب الأطراف، ولهذا فإنَّ دعوتها الصَّريحة لبقيَّة الدوَل أنْ تتخذَ موقفًا مشابهًا، تعني أنَّها لا تكتفي بالوقوف إلى جانب الحقِّ، وإنَّما تطلب من العالَم أنْ يكفَّ عن ترديد الخِطابات دُونَ فعلٍ حقيقي.

وتأتي كلمة سلطنة عُمان في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن تأكيدًا على الموقف العُماني، والَّذي تُعَبِّر فيه عن موقف مختلف عمَّا اعتاده العالَم من بياناتٍ متكررة خالية من التَّأثير، لم تكتفِ بإدانة ما يجري في غزَّة، لكنَّها رأتْ أنْ تواجِهَ مباشرة جوهر المُشْكلة، وهو عجز المنظومة الدوليَّة عن تطبيق قراراتها، وضعف قدرتها على حماية المَدَنيِّين وقت الحروب. فالحديث هنا تجاوز الشَّكوى من التَّوازنات السِّياسيَّة، وحرص على سرد تحليل واضح لأزمة النِّظام الدولي نَفْسه، فالاحتلال الصُّهيوني لا يردعه القانون؛ لأنَّه يعرف أنَّ مجلس الأمن لم يَعُدْ قادرًا على فرض قراراته حين تتصادم مع إرادة الدول الكبرى، ولهذا طالبتْ سلطنة عُمان بضرورة إصلاح آليَّات المجلس، وجعلها أكثر عدلًا وفاعليَّة، حتَّى لا يتحولَ إلى جهة تصدر بيانات وتكتفي بالمراقبة، ما يؤثِّر على الأمن والسَّلام والاستقرار في العالَم، والفكرة الَّتي طرحتها مسقط تنطلق من قناعة أنَّ القانون بلا قدرة على التَّنفيذ هو شكلٌ من أشكال العجز، وأنَّ غياب المحاسبة الدوليَّة لا يحمي السَّلام، وإنَّما يشجِّع على تكرار الجرائم دُونَ خوف أو حساب.

لا توجد قضيَّة تكشف مواقف الدوَل كما تفعل القضيَّة الفلسطينيَّة، فمَن ينظر إِلَيْها من زاوية المصالح فقط، يفقد البوصلة الأخلاقيَّة، ومَن يتجاهل جرائم الاحتلال تحت حجج التَّوازن أو الواقعيَّة، يشارك ضمنًا في استمرار المأساة.. إنَّ فلسطين أصبحتِ المعيار الَّذي يُقاس عَلَيْه صِدق الشِّعارات الدوليَّة حَوْلَ العدالة وحقوق الإنسان، وكُلُّ دَولة ترفض الاعتراف بحقِّ الفلسطينيِّين في إقامة دَولتهم، تضع نَفْسها خارج دائرة المنطق السِّياسي والإنساني معًا.. وتبدو سلطنة عُمان واحدة من الأصوات القليلة الَّتي لم تتراجعْ ولم تسايرْ، وهي لا تفعل ذلك للظُّهور أو للتفوُّق الأخلاقي، وإنَّما لأنَّها تدرك أنَّ السَّلام الحقيقي يبدأ من الاعتراف بالحقوق، لا من تجاهلها، فلا يُمكِن بناء نظام دولي يحترم، إذا كانتْ فلسطين تظلُّ استثناءً في كُلِّ شيء بدءًا من القرارات، والتَّغطيَّة، وانتهاءً بالتَّضامن.. ولهذا فإنَّ مَن يختار الوضوح اليوم، إنَّما يضع نَفْسه في الجانب الصَّحيح من التَّاريخ، حتَّى وإن تأخَّر الوقت.