نظرت إلى آثار الحناء الباهتة على يديها، الحزن الذي كبر في روحها على حين غرة، الوجع الذي يسري من قلبها ويعود إليه بكل قسوة. حدقت في الجموع الكثيرة التي تملأ الخيمة، شعرت بحرارة داخلية ترافقت مع الحرارة التي ترافقت مع اكتظاظ المكان بالجموع الكثيرة، كان صوتها مكتومًا يصدر بلا معنى، تسمع كلمات التعزية والمواساة، الغصة الكبيرة التي بدأت منذ الأمس منعتها من إصدار أي صوت، وحدها الدموع كانت تسيل دون توقف وتفتح جروحًا وتزيدها ألمًا وقيحًا.
فقدت الشعور بالمكان والزمان، أصبحت لحظتها الراهنة مرتبطة بتلك اللحظة التي استقبلت فيها خبر وفاته، الصراخ الذي صدر دفعة واحدة من عدة حناجر، توقف في حنجرتها وأحدث شرخًا هائلا دفع قلبها لضخ الدم بحرارة وبصوت وصل صداه إلى أذنها المتعبة. كان الدوار الذي سيطر عليها في تلك اللحظات قويًا، حاولت التشبث بالجدار المقابل لها، أحست هذه المرة بالأرض تميد من تحتها، وبالجدار يتمايل ليسقطها على الأرض دون حراك.
الصور اللاحقة لها في المشهد تبدو باهتة كآثار الحناء التي وضعتها قبل أيام من العيد، بينما تذكر جليًا ضحكته الأخيرة، صورته وهو يأكل من فوالة العيد، ويوزع العيدية على الأطفال بابتسامة واسعة. أصبحت صورته الأخيرة وهو يقوم بتقطيع لحم العيد، بينما يده تشير بابتسامة واسعة نحو كمية اللحم الكبيرة بمثابة خنجر حاد انغرس في قلوب الجميع.
اتخذت ركنًا قصيًا من الخيمة، كل الذكريات تنهمر كسيل جارف يشعرها بأحاسيس الفقد والحسرة، رفضت مشاهدته في الكفن، لم تنطلق مع الأجساد الكثيرة التي جاءت لتشاهده وتودعه الوداع الأخير، ارتجافها ازداد في تلك اللحظات، الغصة تمددت في داخلها لدرجة أنها منعت عنها الهواء، كادت أن تختنق، التقطت أنفاسها بصعوبة، صوت الصراخ الذي وصلها كان كريح عاتية انتشلتها من ضياع ورمتها في فضاء تيه أشد وأكثر قسوة.
استعادت في تلك اللحظات صورة السيارة التي تحولت إلى كومة حديد دون ملامح، سيارته تلك التي جمع لها مبلغًا مناسبًا خلال سنتين، اختارها لتكون باللون الأبيض، وضعها تحت المظلة الصغيرة التي جهزها قبل أن يشتريها بشهر كامل، اهتم بها وعاملها ككائن حي، وضع لها عدة وسائد في داخلها، وزينها بميدالية صغيرة تحمل عبارة في حفظ الله.
رحل مع سيارته بعد ستة شهور فحسب، تحولت السيارة إلى تكوين حديدي مشوه، وتحول كيانه إلى جسد هامد ملقى على قارعة الطريق. صوت بكاء متواصل صدر من قلب الخيمة، نظرت نحو وجه أمها، الحزن الكبير الذي يغطي ملامحه، الدموع التي تنساب بلا توقف، شعرت بالحرارة التي تهيمن على جوفها، الحرقة التي منعتها من الكلام والنوم والأكل منذ سمعته خبر موته.
كانت تتحدث عن رغبتها في رؤيته عريسًا منذ شهر كامل، تحاول أن تختار له عروسًا، وتناقش الجميع في موضوع القاعات والمهر، ترتسم الغبطة على وجهها وهي تناديه بالمعرس في أثناء دخوله للبيت وفي أثناء خروجه.
ازدادت مساحة الغصة في حلقها، شعرت برغبة في الابتعاد عن كل ما يحيط بها، ابتسامته الكبيرة التي تزين وجهه تنخر روحها المتعبة، الهدايا الكثيرة التي وزعها على أهل البيت بمناسبة العيد ما زالت كما هي على قابعة على تسريحة غرفتها تعذبها كلما دخلت، غرفته المغلقة تئن تحت حمل ثقيل كلما مرت بخطواتها المرهقة أمام بابها الخشبي ذي الزخارف والنقوش الدقيقة والجميلة. كل شيء في ذلك البيت يذكرها به، بوجوده ككيان مر وترك أثرًا عميقًا جميلا لا يمكن تجاهله أو نسيانه بسهولة، كغيمة سخية طاهرة بيضاء وزعت غيثها وخيرها على جميع القلوب. كل ركن وكل زاوية في البيت يذكرهم بوجوده بحركاته بسكناته، بأحاديثه الطويلة الجميلة التي تسكنهم، الألم الذي يعتصرهم لرحيله مبكرًا في شرخ شبابه ينخر دواخلهم، ويضفي على حياتهم مرارة لا حد لها ولا نهاية.
حولقت في داخلها عدة مرات ومسحت الدموع التي فاضت من محجريها، كانت تمد يديها بطريقة آلية للمعزيات، ولا تنطق بأي كلمة رغم أنها كانت بحاجة إلى جميع تلك الأيادي التي ربتت على كتفها، والتي أمسكت يديها المضطربتين.
في تلك اللحظات حاولت الابتعاد عن النظر لوجه أمها الذابل والمصفر، تناولت زجاجة الماء القريبة منها، شربتها غير أن المرارة التي ترافقت مع شربها للماء أشعرتها بالوهن والتعب. عاد إليها الدوار، كانت الرؤية أمامها ضبابية دون ملامح، وحتى الأجساد المتشحة من حولها بالسواد، وخليط الأصوات المتداخلة أصابها بالدوار، كل شيء من حولها استعار لون التراب والضباب، حولقت مرة أخرى، الغصة تنمو لتمنعها حتى من التحدث، التنفس أصبح في هذه اللحظات أكثر صعوبة، حاولت التقاط أنفاسها، تناوبت أمامها صورة ابتسامته، ضحكاته، السيارة المتهشمة، جثته الممددة بلا حراك، قبره، الصرخات، سقطت في تلك اللحظات، كانت الدموع تفيض من قلبها وتنهمر على ثوبها الأسود، سمعت الكثير من الصرخات والعويل والصياح، وفقدت بعد ذلك الشعور بما حولها.