.. فالأصل أن يبذل الداعية كل جهوده، ويخلص تمام الإخلاص؛ حتى يستحق نصر الله، وتأييده، كما حدث مع الرسول، وتعرضه للرؤية منهم، والإمساك به، وبصاحبه، والعودة بهما إلى مكة مأسورين، هو، وصاحبه، فأدركتهم العناية، وحصنتهم الرعاية.
وتعلمنا تلك الرمزية أيضًا ألا نخافَ، وأن الله دائما معنا، ولن يتأخرَ عن نصرة عباده الذين ينصرون الله، ورسوله، ويتعرضون للموت، والجوع، والعطش، ولا يجدون ما به يعتاشون، وأن الله ناصرٌ عبادَه المؤمنين، وجنده الصادقين.
وأما عن شريحة الرجال كبار السن، والنساء والشباب صغار السن، فيطالعك أولَ ما يطالعك البيت (الأبي بكريِّ) كله؛ فقد اشترك كلُّه في إنجاح الهجرة، وقام بيتُ أبي بكر بمعظمها، وخصوصا في الفترة الحرجة، فترة الخروج من مكة، والإفلات من قبضة قريش، حيث قام أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بتجهيز وسيلة النقل، والقيام على شأنها: إطعاما، وشرابا، وتربية؛ حتى إذا أُذِنَ للرسول الكريم ببدء الهجرة، كانت الناقتان تحت يديهما، ورجليهما جاهزتين للمسير في تلك الرحلة المباركة، فشريحة الحيوان ممثلةٌ في الهجرة بالناقتين اللتين كانتا جاهزتين كلَّ التجهيز، وخَطَّطَ أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ مع الرسول الكريم ساعة المجيء إليه في وقت تعلم قريش كلُّها أن الرسول في بيته، في حالة قيلولة، أي استراحة، ونوم من لهيب جَوِّ مكةَ الحارق، وجميعهم يعلم أن من طبيعة النبي الكريم النومَ في ذلك الوقت، ولا يشك أحدٌ في ذلك، فجاء في تَخَفٍّ لأبي بكر، وقال: أخرجْ مَنْ عندك، فقال: يا رسول الله، وهما بنتاي، وابني: عائشة، وأسماء، وعبد الله فقط، فقال: قد أُذِنَ لي في الهجرة، فابتهج وقال: الصحبةَ، الصحبةَ، يارسول الله!، فرد عليه: بلى، بلى، فنهض لنصرة الله، ورسوله، وقام بواجبه خير قيام، وجعل السيدة أسماءَ مثل كتيبة الإمداد والتزويد، فكانت تأتي بالأكل والماء، وتصعد إلى الغار، وتظل فترة، وتعود أدراجها، ولما كانت لم تجد شيئًا تغلق به فم السقاء، قطعت نطاقها نصفين وربطت به فيَّ السقاء، فقال لها الرسول؛ مقدّرًا صنيعها: لقد أبدلك الله بنطاقيك نطاقين في الجنة.
ومثل عبد الله بن ابي بكر شريحة المخابرات العامة، وأمن الدولة، والأمن العام، فكان يجلس سحابة النهار يحصد ما لَاكَتْهُ أفواه مكة، وما سالت به قرائحهم، وهو بالليل يخبر بها رسول الله، ثم يعود عبد الله قبيل طلوع الفجر إلى داره، فيرونه بين ظَهْرانَيْهم، فلا يشعرون بخروجه، ولا بدخوله، وهو قد أدى مهمته خير أداء حتى مضى الرسول إلى غايته.
وأما عائشة فقد قامت بدور كبير، حيث جعلت عقيرة جدها لا ترتفع، ويشعر الناس بهجرة ابنه أبي بكر، فلما جاء يسأل عن ابنه أبي بكر، قالت: لا أدري أين توجه، فلما سألها أترك المال، فوضعت يده، وقد كان كفيفًا غير مبصر) على كيس به أحجار صغار، وقالت: ترك لنا المالَ يا جدي، فَتَحسَّسَ، ومضى ساكتا، كأنه قد تأكد، فحملت عنا عناء رفع صوته، أو إشعارِ الناس بأنه قد هاجر، وأخذ معه المال، ولم يترك شيئا.
وأما شريحة القماش فهي خيمة أم معبد حيث استضافت الرسول الكريم، وصاحبه، وكانت كريمة، تعرف حقوق الطريق، ولما كان عندها شاة ضعيفة، فقدمتها ومعها السكين ليذبحها الرسول، فقال: لا حاجة لنا إلى السكين، هاتني إناءً يوضع فيه اللبن، فجاءته به، فدعا الله واحتلبها فأنزلت لبنا كثيرا فشرب وشبع، وشرب أبو بكر وشبع، وبقي الإناء كاملا كأن لم يشرب منه أحد، فتعجبت المرأة أمُّ معبد لذلك تعجبًّا كبيرًا؛ حيث إن غنمتها لا تكاد ترى من ضعفها، وما كان ضرعها يرتفع أبدًا، لكنها ببركة الرسول صارت لُبَّنًا ممتلئة الضرع، يكاد ينفجر منه اللبن، ولما مضى الرسول وصاحبه، وجاء أبو معبد، فوجد اللبن، فتعجب، فحكت له القصة كاملة، ووصفت الرسول وصفًا دقيقًا معروفًا في كل كتب السيرة، خرج يجري على وجهه، وهو يقول: هذا رسول الله، وصاحبه، لكنه لم يحظ برؤيته، وتمنى أن و كان نال شرف رؤيته، والدعاء له، وأخذ نور من نور محياه.
فقد تمثل القماش هنا بالخيمة، والحيوان بالغنمة التي كانت من مواضع الإعجاز الذي أجره الله على يديْ رسوله، الأمر الذي يجعل الدعاة في ثبات من أمرهم، وإدراك لعناية ربهم بهم، ما داموا مخلصين في أداء مهماتهم، والقيام برسالة ربهم خير قيام.
ونلاحظ هنا أن الرسول لم يستعمل السكين، وهو رمز إلى أن الإسلام لا يعرف الدماء، ولا إراقة الدماء، وإنما الخير كله في العفو، وإشاعة الهدوء، فاختار اللبن على الدم، ففيه رمزية كبيرة أنه ليس دين إراقة دماء، وإنما هو دين سلام، وتسامح، ونفع وصلاح.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية