في الوقت الَّذي ترتفع فيه درجات الحرارة لترغمَ كثيرًا من المُدُن المنطقة على إغلاق أبوابها أمام السِّياحة، تفتح سلطنة عُمان نوافذها على موسم متفرِّد، لا تُعلَّق فيه النَّشاطات الصَّيفيَّة انتظارًا للشِّتاء. ففي ولاية الجبل الأخضر ترتدي الطَّبيعة لَوْنها الأبرد، ويصبح النَّسيم اليومي رفيق الزَّائر، أمَّا المشهد في صلالة وخريفها فيتبدَّل بالكامل، إذ تملأ السُّحب السَّماء، ويتواصل الرَّذاذ يعطيها طقسًا استثنائيًّا، وهذا التنوُّع المناخي تحوَّل في السَّنوات الأخيرة إلى مساحة اقتصاديَّة قادرة على استيعاب استراتيجيَّات نُمو متكاملة، فالصَّيف في عُمان باتَ له مسار واضح لصياغة موسم فعَّال مختلف عن نمط السِّياحة الإقليميَّة المعتاد. ولعلَّ أهمَّ ما يُميِّز التَّجربة العُمانيَّة هو تحوُّل الجغرافيا إلى أداة نُمو، وليس كخلفيَّة طبيعيَّة، هو ما يضع السَّلطنة في خانة البُلدان القليلة الَّتي تمتلك موسمًا يستطيع أنْ يقدِّمَ قِيمةً مضافة. إنَّ قدرة الإنسان على فَهْم إيقاع المكان هي القادرة على تحويل الطَّقس والجغرافيا إلى فرصة، وهذا ما يتجلَّى فعليًّا في ولاية الجبل الأخضر ومحافظة ظفار، حيثُ تُبنى المواسم بناءً على خصوصيَّة الطَّقس وثقافة المُجتمع، فالفعاليَّات الَّتي أُقيمت في الجبل الأخضر مثل (ربيع الجبل) و(رمانة) أصبحتْ أدوات جذب حقيقيَّة استطاعتْ أنْ تغيِّرَ صورة الولاية من وجهةٍ زراعيَّة محدودة إلى محطَّة دائمة في مسارات الزوَّار، بَيْنَما أسْهَم موسم خريف صلالة في ترسيخ الحضور الإقليمي لعُمان بوصفها الخيار الأوَّل في شهور الإجازات الصَّيفيَّة.. والأرقام الصَّادرة عن المركز الوطني للإحصاء تؤكِّد هذه النَّقلة، لكن ما هو أهمُّ من الأرقام هو نَوْعيَّة الزوَّار، وطبيعة تجربتهم، وارتباطهم بالمكان، وهو ما يخلق دَوْرة استهلاك واعية، فالسِّياحة الصَّيفيَّة هنا تُدار برؤية تخطيطيَّة تستثمر في الانطباع وتحوّله إلى عائد اقتصادي طويل الأمد.
نجاح الموسم السِّياحي يتوقف ـ بجانب المناخ ـ على ما يُصاحبه من بنية معرفيَّة تُعزِّز التَّجربة، ويُعبِّر افتتاح متحف ظفار عن نموذج لخطوات عمليَّة، تُعِيد تعريف العلاقة بَيْنَ الزَّائر والمكان من زاوية غير استهلاكيَّة. فالمتحف ـ بجانب عرض نماذج من التُّراث المحلِّي ـ يُعِيد صياغة التَّاريخ العُماني ضِمن سرديَّة مدروسة، تضع الزَّائر في قلبِ الحكاية لا على هامشها، من حضارات سمهرم والبليد إلى المطبخ والفنون الشَّعبيَّة والأسواق، هناك مشهد حَي مُعاد إنتاجه بلُغة معاصرة، مدعوم بأدوات عرض متطوِّرة، ومتاح بأربع لُغات؛ لِيكُونَ المتحف مشروعًا تربويًّا وثقافيًّا وسياحيًّا في آنٍ واحد، وهنا فقط تتحول المتاحف إلى أماكن حوار مع التَّاريخ.. وبهذه الطَّريقة يتغيَّر دَوْر السِّياحة من نشاط لحظي إلى فِعل بناء طويل المدَى، فالتَّجربة الَّتي يخرج بها الزَّائر تظلُّ معه كقصَّة يحملها إلى مُجتمعه، ويُعِيد من خلالها صياغة صورته عن عُمان.
ولا تكتمل ملامح الموسم النَّاجح دُونَ تمكين المُجتمع من الدُّخول في صُلب الحدَث، وهنا يظهر دَوْر المؤسَّسات الصَّغيرة والمُتَوَسِّطة كأحَد محرِّكات الحراك الاقتصادي في موسم صلالة، ويُعَدُّ مَعرِض (بازار نفط عُمان) تحرُّكًا حقيقيًّا لربط السِّياحة بالتَّنمية المحليَّة.. فعشرات المشاريع الحِرفيَّة والتِّقنية والعائليَّة شاركتْ لترويجِ منتجاتها، وصناعة حضور جديد داخل الاقتصاد السِّياحي، من تطبيقات رقميَّة تُعرِّف بالمواقع، إلى منتجات اللّبان والعسل والمستحضرات المستخرجة من الطَّبيعة، أصبح لكُلِّ فكرة مساحة فعليَّة في قلبِ المشهد، وهذا النَّوْع من الدَّمج بَيْنَ الرِّيادة والسِّياحة يوسِّع مفهوم المواسم من تجمُّع للزوَّار، إلى مساحة شاملة للدَّوْرة الاقتصاديَّة، فحين تتبنَّى السِّياحة فِكر الشَّراكة، وتفتح أبوابها للطَّاقات المحليَّة، فإنَّ أثَرَها يتجاوز نِسَب الإشغال في الفنادق، ويصل إلى مستوَى معيشة الأفراد، وهنا يُمكِن الحديث عن موسم ناجح، لا لأنَّه جلب الزوَّار، بل لأنَّه جعل من المُجتمع نَفْسه جزءًا من القرار والنَّاتج معًا.