السبت 02 أغسطس 2025 م - 8 صفر 1447 هـ

الصهيونية الإعلامية

الصهيونية الإعلامية
الأربعاء - 23 يوليو 2025 01:09 م

د.أحمد مصطفى أحمد

20


نشكو دومًا من اعتماد الإعلام الغربي، والعربي التَّابع له بشكلٍ أعمى، على الرِّواية الصُّهيونيَّة بشأن المجازر والجرائم ضدَّ الإنسانيَّة الَّتي يرتكبها الاحتلال العنصري في فلسطين والدوَل المجاورة. ونتيجة خبرة عقود من العمل في مؤسَّسات إعلاميَّة غربيَّة وعربيَّة كبرى يُمكِنني القول إنَّ تورُّط منافذ إعلاميَّة غربيَّة في الحروب العدوانيَّة الإجراميَّة ليس بالضرورة عن قناعة من الصحفيِّين أو «عمالة» بعضهم لدول وأجهزة. إذ إنَّ هناك من بَيْنِ هؤلاء مَن لا يبلع «التيَّار السَّائد» ويحاول التقصِّي لِيقدِّمَ محتوى موضوعيًّا نسبيًّا. وهناك أيضًا مَن يتصورون أنَّهم يتصرفون في نطاق المهنيَّة، بَيْنَما هم إمَّا يتمُّ التَّلاعب بهم أو تضليلهم بشكلٍ احترافي من قِبل عناصر استخباراتيَّة ومسؤولي تضليل إعلامي ذلك دُونَ اتِّفاق معهم أو تجنيدهم. وبالطَّبع هناك في النِّهاية مَن هم بطبعهم عنصريون يحاولون تغليف عنصريَّتهم بادِّعاءات حُريَّة التَّعبير والمهنيَّة المزيَّفة.

يرتاح كثيرون لفكرة يتمُّ ترويجها منذُ زمن وهي أنَّ الصَّهاينة «يسيطرون على الإعلام» العالَمي مثل فكرة أنَّ إِلَيْهود يسيطرون على مراكز المال في العالَم والَّتي تعود إلى زمن شكسبير ومسرحيَّته الشَّهيرة «تاجر البندقيَّة» والمرابي إِلَيْهودي شايلوك. صحيح أنَّ هناك يهودًا في مجال المال وبعضهم من العائلات الثريَّة التقليديَّة، وهناك صهاينة أيضًا في الإعلام، ليسوا كُلُّهم يهودًا، بل بعضهم صهاينة مسيحيون وأغلبهم غير متدينين، ولكنَّهم صهيونيو التَّوَجُّه والقناعة. لكنَّ ذلك لا يعني «السَّيطرة» بالشَّكل الَّذي يريح العقل الكسول الَّذي «يتواكل» على أنَّهم «مسيطرون، وما باليد حيلة». كُلُّ ما سبق لا يعني أنَّ هيمنة الصَّهاينة، سواء من إِلَيْهود أو غيرهم، على الإعلام ليسَتْ واقعًا حقيقيًّا. إنَّما المسألة لا تعود إلى «المال» أو غيره، بل ببساطة لأنَّهم فعلوا ما لم يفعله غيرهم. لا يقتصر الأمْر على الإعلام، بل في السِّياسة أيضًا تجد الصَّهاينة متنفِّذين، ليس فقط بالمال ولكن لأنَّهم مرَّة أُخرى لا يجدُونَ منافسًا في سعيهم للتَّأثير في الغرب والعالَم. حتَّى كُلُّ الأموال والصَّفقات والمصالح لأميركا في المنطقة لم تحُلْ دُونَ حقيقة أنَّ معرفة الأميركان بالمنطقة الَّتي تبنى عَلَيْها قراراتهم بشأنها مصدرها «إسرائيل».

أذكُر المرَّة الوحيدة الَّتي زرتُ فيها البيت الأبيض مطلع التسعينيَّات كانتْ للقاء مع ديفيد ساترفيلد المنتدب وقتها من وزارة الخارجيَّة لمجلس الأمن القومي، وعاد بعد ذلك لمكتب الشَّرق الأوسط في الخارجيَّة ثمَّ خدم في المنطقة سفيرًا في بيروت. خلال النِّقاش بدتْ آراؤه في بعض الأمور غريبة، فلمَّا سألتُه عن مصادر معلوماته الَّتي يبني عَلَيْها تصوُّراته ذكَر طبعًا تقارير السَّفارات في المنطقة وتحليلات الاستخبارات وأيضًا صديقه (وقتها) يوري لوبراني. كنتُ أعرف عن لوبراني من الوثائق الَّتي نشرها الطَّلبة الإيرانيون الَّذين احتلُّوا السّفارة الأميركيَّة في طهران بعد ثورة الخميني. فهو ضابط استخبارات «إسرائيلي» عمل في إيران وقت الشَّاه بغطاء دبلوماسي في السّفارة الأميركيَّة بطهران. وعمل بعد ذلك منسقًا للاحتلال «الإسرائيلي» في جنوب لبنان. وكان واضحًا أنَّ أغْلَب معرفة مجلس الأمن القومي والخارجيَّة في واشنطن مصدرها لوبراني وأمثاله من الصَّهاينة. بعد ذلك حين عملتُ في مؤسَّسة إعلاميَّة كُبرى في أوروبا اكتشفتُ أنَّ لوبراني مُغذٍّ رئيسٌ لمراسليها في المنطقة، لا أقصد مهنيًّا، إذ إنّ على الصّحفي استقاء المعلومات من كُلِّ المصادر أيًّا كانتْ، وإنَّما من باب التَّلاعب والدَّس المعلوماتي والتَّضليل.

لذا لم يفاجئني كثيرًا ما كشفَ عَنْه الكاتب والأكاديمي الأميركي ألان ماكلويد بمقال له على موقع «نت برس» عن توظيف شركات التكنولوجيا الأميركيَّة الكبرى لضبَّاط مخابرات صهاينة سابقين من وحدة المعلومات في الاستخبارات «الإسرائيليَّة». ومع أنَّ المقال ركَّز على هؤلاء العاملين في المواقع الرَّئيسة بشركة آبل، بأسمائهم ووظائفهم وعملهم السَّابق في استخبارات الاحتلال الصُّهيوني، إلَّا أنَّ ذلك مجرَّد نموذج لهؤلاء الَّذين ينتشرون في مختلف شركات التكنولوجيا الكبرى، خصوصًا الأميركيَّة مِنْها. بل إنَّ بعض هؤلاء أسَّس شركات إعلاميَّة في الولايات المُتَّحدة أو شركات ناشئة في مجال التكنولوجيا تحصل على تمويل بالمليارات، بعضها استثمارات عربيَّة للأسف. لا يقتصر الأمْر على أميركا، بل تجد ذلك في أوروبا أيضًا. فبعض القيادات في مؤسَّسة إعلاميَّة بريطانيَّة كُبرى صهاينة «إسرائيليون» أصلًا أو موالون تمامًا للاحتلال العنصري. وهناك منافذ إعلاميَّة أميركيَّة وأوروبيَّة تنشر محتواها بشكلٍ مستمرٍّ على مواقع التَّواصُل ويعتمد عَلَيْها كثيرون في منطقتنا، بمن فيهم وسائل إعلام، أسَّسها ويُديرها «إسرائيليون» أو صهاينة موالون للاحتلال تمامًا.

هناك بالطَّبع مَن يعرف مَن هم وراء تلك المنافذ، حتَّى لو بدتْ «مهنيَّة» وموضوعيَّة وتكاد تكُونُ ضِمن سياق الإعلام التَّقليدي الغربي. وهناك مَن «يبلع» الدَّس والتَّضليل الَّذي تحمله تلك المنافذ وهو لا يدرك مصدره إنَّما فقط لأنَّه لا يجد بديلًا ذا مصداقيَّة في الإعلام العربي. إنَّما الأخطر هو أنَّ أغْلَب شركات الذَّكاء الاصطناعي الكُبرى حاليًّا إمَّا أسَّسها «إسرائيليون» وصهاينة أو أنَّ بها ضبَّاط مخابرات سابقين. طبعًا المقصود هنا هو شركات الذَّكاء الاصطناعي الأميركيَّة والغربيَّة، وليس الصينيَّة مثلًا. لكن الأُولى هي الأوسع انتشارًا والأكثر استخدامًا من قِبل الجمهور العربي الَّذي رُبَّما لا يدري أنَّه على الطَّرف الثَّاني من جهد استخباراتي صهيوني!

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]