الجمعة 25 يوليو 2025 م - 29 محرم 1447 هـ

رأي الوطن : خطوة عملية نحو تنمية مستدامة

الثلاثاء - 22 يوليو 2025 06:30 م

رأي الوطن

160


تسعَى سلطنة عُمان إلى بناء اقتصاد أكثر كفاءة واستدامة، من خلال مشروع جديد لاحتساب (فجوة الاقتصاد الدَّائري)، هذا المشروع، الَّذي أطلقَتْه وزارة الاقتصاد، يهدف إلى قياس واقع الاقتصاد الحالي، مقارنةً بما يُمكِن الوصول إِلَيْه إذا تمَّ تبنِّي نموذج الاقتصاد الدَّائري بشكلٍ كامل. وتَقُوم الفكرة الأساسيَّة لهذا النَّوْع من الاقتصاد على تقليل الفاقد، وإعادة استخدام الموارد، وزيادة عمر المنتجات بدلًا من التَّخلُّص مِنْها سريعًا، وهو ما يُعَدُّ تحوُّلًا مُهمًّا في طريقة التَّفكير الاقتصادي والإداري، هذا التَّحوُّل يَمسُّ جوهر كيفيَّة استخدام الدَّولة لمواردها الطَّبيعيَّة والبَشَريَّة والماليَّة بطريقة أكثر حكمة. فالمشروع الحالي يسعى إلى وضعِ خطَّة قابلة للتَّنفيذ، بحيثُ تشارك فيها مختلف الجهات الحكوميَّة، والقِطاع الخاصُّ، ومؤسَّسات المُجتمع المَدَني؛ للوصولِ إلى نموذجٍ متكامل يُسهم في تحسين الإنتاج ويُقلِّل التَّكاليف ويُحافظ على الموارد للأجيال القادمة.

إنَّ احتساب الفجوة يُشكِّل أداة عمليَّة لِفَهْمِ الفَرق بَيْنَ الوضع القائم، وما يُمكِن تحقيقه، فالفجوة هنا تُمثِّل فرصة للتَّحسين، ومجالًا لتوجيهِ السِّياسات الحكوميَّة نَحْوَ مجالات جديدة تملك قدرة على النُّموِّ. ولعلَّ دراسة هذه الفجوة في مختلف القِطاعات تُتيح للحكومة أنْ ترَى بوضوحٍ أين تتركَّز نقاط الضَّعف، وما التَّغييرات المطلوبة على مستوى التَّشريعات، أو البنية الأساسيَّة، أو حتَّى التَّدريب المهني. فالمشروع يتعامل مع الاقتصاد الدَّائري؛ باعتباره مسارًا استراتيجيًّا طويل الأمد، لا مجرَّد مبادرة ظرفيَّة مرتبطة بأزمة بيئيَّة أو دوليَّة، لذلك فإنَّ التَّفاعل مع هذا المشروع يَجِبُ أنْ يكُونَ شاملًا ومتكاملًا؛ لأنَّ أيَّ نجاح جزئي لن يُحققَ الأثَر الكامل المطلوب، والتَّحدِّي الأكبر هنا هو ترجمة مخرجات الدِّراسات إلى سياسات واضحة، وخطط تنفيذيَّة تمتدُّ إلى واقع المصانع، والمزارع، والمؤسَّسات الخدميَّة، بحيثُ يشعر المواطن بتغيُّر حقيقي في طبيعة الحياة اليوميَّة، والخيارات الاقتصاديَّة المتاحة أمامه.

ولعلَّ أهمَّ ما يُميِّز تلك الخطوة هو أنَّ الاقتصاد الدَّائري يفتح مجالات استثمار جديدة أمام الشَّركات المحليَّة والأجنبيَّة، خصوصًا في القِطاعات الَّتي كانتْ مهملةً أو غير مصنَّفة كمجالات ربحيَّة.. فإعادة التَّدوير، وتحسين كفاءة استهلاك الطَّاقة، وتطوير صناعات قائمة على موادَّ مُعادٍ استخدامها، كُلُّها فرص واعدة لخلقِ وظائف جديدة وتقليل الاعتماد على الواردات، وهذا التَّحوُّل يحتاج إلى وجود قوانين تدعم هذا التَّوَجُّه، ومؤسَّسات قادرة على إدارة التَّغيير، وبرامج حكوميَّة تُموِّل الابتكار، وتُقلِّل المخاطر أمام المستثمِرِين. فالقِطاع الخاصُّ بطبعِه يتحرك نَحْوَ الرِّبح، وإذا لم يجدْ حوافز واضحة ضِمن هذا النَّموذج الجديد، سيتردَّد في الدُّخول فيه، ولهذا فإنَّ الحكومة مطالبة ببناء بيئة جاذبة، تَقُوم على الشَّراكة والوضوح في المعايير والمكاسب.. فالاقتصاد الدَّائري لا يُلغي الاقتصاد التَّقليدي، لكنَّه يُضيف له بُعدًا أكثر وعيًا، يجعل من كُلِّ مرحلة في الإنتاج فرصةً لتوليد قِيمة اقتصاديَّة جديدة، بدلًا من التَّوقُّف عِندَ نقطة الهدر والخسارة.

يبقَى العامل الحاسم في هذا التَّحوُّل هو الإنسان، سواء على مستوى الفرد أو المؤسَّسة، فلا يُمكِن لأيِّ خطَّة أنْ تُنفَّذَ ما لم يكُنْ هناك وعيٌ وفَهْم، ومهارات قادرة على التَّعامل مع متطلَّبات هذا النَّوْع من الاقتصاد، لذا فهناك ضرورة لبناء الكوادر الوطنيَّة، وتطوير المناهج التَّعليميَّة، وتحديث ثقافة العمل، فكُلُّها خطوات ضروريَّة لإنجاح هذا المشروع، كما يَجِبُ أنْ يبدأَ التَّغيير من داخل المؤسَّسات التَّعليميَّة والإداريَّة؛ حتَّى تصلَ المفاهيم الجديدة إلى موظَّف البلديَّة، وعامل المصنع، وصاحب المشروع الصَّغير.. إنَّها خطَّة وطنيَّة تحتاج إلى مساهمة الجميع، وإذا نجحتِ سلطنة عُمان في تنفيذ هذا التَّحوُّل بالشَّكل الصَّحيح، فإنَّها تحافظ على مواردها، وتصنع نموذجًا إقليميًّا يُحتذى به، والوقت الآن مناسِب جدًّا لبناء هذا النَّموذج، خصوصًا مع تزايد التَّحدِّيات البيئيَّة والاقتصاديَّة حَوْلَ العالَم، وتنامي الحاجة إلى بدائل عمليَّة وواقعيَّة قادرة على حماية الاستقرار وتحقيق النُّموِّ معًا، والوصول للهدف الرَّئيس وهو الحياد الصِّفري بحلول عام 2050.