الجمعة 25 يوليو 2025 م - 29 محرم 1447 هـ

في العمق : الرهان على الطفولة: قراءة فـي أبعاد الحملة الوطنية «أطفالنا أمانة»

في العمق : الرهان على الطفولة: قراءة فـي أبعاد الحملة الوطنية «أطفالنا أمانة»
الثلاثاء - 22 يوليو 2025 01:37 م

د.رجب بن علي العويسي

10

في مُجتمع سلطنة عُمان الفتي، حيثُ يُشكِّل الأطفال حضورًا واسعًا ونسبة عالية من السكَّان، يصبح شعار «أطفالنا أمانة» أكثر من مجرَّد حملة توعويَّة، بل هو خيار استراتيجي ومحطَّة تحوُّل لبناء مستقبل الطُّفولة في عالَم متغيِّر. وفي هذا الصَّدد يُشير إصدار الفئات المُجتمعيَّة للمركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أنَّ إجمالي عدد الأطفال في سلطنة عُمان في عام 2022 بلغ (1.4) مليون طفل، شكَّل العُمانيون مِنْهم (87%) بإجمالي (1.2) مليون طفل، بَيْنَما بلغتْ نسبة النَّوْع بَيْنَ الأطفال العُمانيِّين (104) ذكر لكُلِّ (100) أنثى، وجاءتِ النِّسبة الأكبر من الأطفال العُمانيِّين للفئة العمريَّة (5-9) سنوات بما نسبته (33%)، تليها الفئة العمريَّة (0-4) سنوات بما نسبته (30%)، ثمَّ الفئة العمريَّة (10-14) سنة بنسبة (25%)، في حين بلغتِ النِّسبة للفئة العمريَّة (15-17) سنة (12%). وتُشير إحصائيَّات صندوق الحماية الاجتماعيَّة إلى أنَّه حتَّى نهاية مايو 2025 بلغ عدد المستفيدين من منفعة الطُّفولة (1.243.160) منتفعًا، بما تعكسه هذه الأرقام والمؤشِّرات من موقع الطُّفولة في البنية الديمغرافيَّة لسلطنة عُمان، ما يرفع سقف المسؤوليَّة تجاه هذه الفئة، ويؤكِّد على ضرورة التَّفاعل معها من خلال سياسات وتشريعات وبرامج وأُطُر ورؤى واستراتيجيَّات ناضجة وشاملة تهدف إلى رعاية الطُّفولة وحمايتها وتمكينها، وتوفير الموارد والممكنات التَّعليميَّة والصحيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والرِّعاية الأوَّليَّة والبرامج التوعويَّة لصحَّة الأُسرة والطُّفولة.

وتُمثِّل الحملة الإعلاميَّة الوطنيَّة «أطفالنا أمانة» الَّتي أطلقَتْها في عام 2023 وزارة التَّنمية الاجتماعيَّة وتُنفِّذها مع اللَّجنة الوطنيَّة لشؤون الأُسرة، ومكتب منظَّمة الأُمم المُتَّحدة للطُّفولة: «اليونيسف» بالتَّعاون مع عددٍ من الوزارات والجهات الحكوميَّة والخاصَّة ذات العلاقة مِثل وزارات: التَّربية والتَّعليم، والصحَّة، والإعلام، والمركز الوطني للإحصاء والمعلومات ومؤسَّسات المُجتمع الأهلي وجمعيَّات المرأة العُمانيَّة ومؤسَّسات القِطاع الخاصِّ، تحوُّلًا نَوْعيًّا في حشد الاهتمام الوطني بالطُّفولة، وتوجيه القدرات المؤسَّسيَّة والمُكوِّن المُجتمعي نَحْوَ تعزيز الأمان في حياة الأطفال، وفْقَ أُطُر وتشريعات ومناهج عمل وخطط وبرامج متكاملة لرفعِ مستوى الأمان والسَّلامة وتعزيز الثَّقافة الوقائيَّة لدَى الطُّفولة، حيثُ تبرز أهميَّة الشَّراكة المُجتمعيَّة في رفع مستوى الوعي بأهميَّة حماية الطِّفل وتعزيز السَّلامة الجسديَّة والنَّفْسيَّة والفكريَّة له، في ظلِّ ارتفاع عدد الجرائم الواقعة على الأطفال في عام 2024، حيثُ وصل عدد القضايا المرتبطة بالأطفال إلى (1325) قضيَّة، وأنَّ من أكثر الجرائم الواقعة على الطِّفل لعام 2024 كانتْ جرائم: التَّحرُّش وهتك العِرض بالطِّفل والَّتي بلغتْ (399) حالة؛ والتَّحدِّيات النَّفْسيَّة والفكريَّة الَّتي يواجهها أطفال اليوم بسبب انفتاح الفضاء الرَّقمي وارتفاع تعرُّض حياة الأطفال للخطر بسبب تأثير النِّزاعات والحروب وخِطاب الكراهية والمذهبيَّة والعنصريَّة والانحراف والشُّذوذ والتَّنمُّر الَّذي تروِّج له بعض القنوات الإعلاميَّة والمنصَّات الاجتماعيَّة، ما يؤكِّد على ضرورة أن تنشطَ جهود المؤسَّسات والأُسرة والوالدين ومؤسَّسات المُجتمع الأهلي في رفع سقف العمل من أجْلِ حماية الطُّفولة، من خلال الموجِّهات الآتية:

ـ استشعار أنَّ تربية الأبناء ورعاية الطُّفولة مسؤوليَّة فرديَّة ومُجتمعيَّة ووطنيَّة، والتزامًا أخلاقيًّا ودينيًّا وفطريًّا، تتطلب تضافر الجهود في ظلِّ ارتفاع سقف المتغيِّرات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتقنيَّة والفكريَّة الَّتي تؤثِّر على كيان الأُسرة وأدوارها في التَّربية الطفوليَّة. لذلك لا ينبغي أن تكُونَ الظُّروف الطَّارئة، أو تدخل التقنيَّة في تفاصيل الحياة اليوميَّة، ذريعة لتخلِّي الأُسرة عن دَوْرها ومسؤوليَّاتها الواجبة نَحْوَ الأبناء؛ بل يَجِبُ أن تبقى مسؤوليَّة تربية الأبناء واجبًا لا يتجزأ من كينونة الأُسرة، ومعيارًا لنجاحها، يتطلب دعمًا قانونيًّا وتشريعيًّا يُحمِّل الوالدين المسؤوليَّة، حتَّى في حالات الطَّلاق أو وجود المُشْكلات والخلافات الأُسريَّة.

ـ تعظيم فرص الحماية للأطفال في ظلِّ ارتفاع حوادث الأطفال، وتفاقم حوادث التحرُّش الجنسي والانحرافات السُّلوكيَّة والألعاب الإلكترونيَّة الخطرة وحوادث الطُّرق والغرق وغيرها، ذلك أنَّ حوادث الأطفال باتتْ تأخذ اليوم أشكالًا أكثر خطورة في تركيبتها وتعقُّدها وحساسيَّتها، فحوادث الطُّرق والغرق والدَّهس والسُّقوط من المرتفعات وحوادث المدارس، رغم حجم المعاناة الَّتي ترافق الأطفال الَّذين ينجون من الوفاة ويصابون بإعاقات مزمنة وتشوُّهات دائمة تؤثِّر سلبًا على نمط حياتهم وطموحاتهم المستقبليَّة، إلَّا أنَّ جرائم التحرُّش الجنسي وهتك العِرض؛ باتتْ أشدَّ خطرًا وأصعب تفسيرًا من تلك الحوادث المحسوسة، فإنَّ تداعياتها النَّفْسيَّة والاجتماعيَّة والفسيولوجيَّة والفكريَّة على الطُّفولة والصُّورة الذهنيَّة الَّتي تُرافق شخصيَّة الطِّفل في مراحل حياته القادمة باتتْ أكثر وقعًا من وصفها في كلمات أو التَّعبير عَنْها بصرخات، وجبرها قد لا يتحقق في فترة معيَّنة، بل قد يلازم حياة الطِّفل لعشرات السِّنين وتظلُّ حاضرة في مخيلته؛ جراح وآلام وانكسارات ترافق شخصيَّته فيتَّجه بسببها إلى السُّقوط الأخلاقي والعياذ بالله، أو إلى الثَّأر والانتقام عِندَما يكبر، أو أن يعيشَ حالة من الانفصام في الشَّخصيَّة والتَّنمُّر والسّخط من الوسط الاجتماعي الَّذي يعيشه فيزداد كرهه للحياة والأُسرة والمُجتمع.

ـ استدامة الحوار الأُسري باعتباره حجر الزَّاوية في بناء الثِّقة وترسيخ عُرى المَحبَّة والتَّماسُك الأُسري. إذ إنَّ غياب ثقافة الحوار والاستماع والإنصات وطرح وجهات النَّظر وإبداء الرَّأي داخل الأُسرة يؤدي إلى ضعف في الرَّوابط العاطفيَّة، ويخلق حالة من الانفصال بَيْنَ الآباء وأبنائهم، ممَّا يُسهم في اتِّساع الفجوة النَّفْسيَّة والفكريَّة، ويزيد من احتمالات التَّمرُّد والانطواء والانحراف، خصوصًا مع وجود الهواتف الذكيَّة بِيَدِ الأطفال ودخولهم للفضاء الرَّقمي، وغياب الرَّقابة والحوار الأبوي بَيْنَما يُشكِّل الإنصات والحوار اليومي وسيلة فعَّالة لإعادة قراءة الواقع الأُسري، وتشخيص السُّلوكيَّات، والوصول إلى حلول ممكنة للمُشْكلات والخلافات تنمِّي روح المسؤوليَّة المشتركة داخل الأُسرة، وتُسهم في توفير بيئة مفعمة بالمَحبَّة والتَّفاهم والتَّعاون.

ـ يُمثِّل التَّعليم بِدَوْره إحدى الرَّكائز الجوهريَّة في بناء شخصيَّة الطِّفل وتنمية حسِّه بالمسؤوليَّة والانتماء والمواطنة والهُوِيَّة، فما تعكسه بيئة المدرسة والصَّف الدِّراسي وحرم الجامعة وقاعات التَّدريس والمختبرات ومراكز البحث والأنشطة الطلابيَّة وغيرها من المواقف اليوميَّة الَّتي يعيشها الطَّلبة داخل هذه البيئات التربويَّة، نموذج عملي مصغَّر للوطن الكبير، الأمْر الَّذي يكسب مفهوم المواطنة والهُوِيَّة والأخلاق عمقًا ينساب في جنبات النَّفْس، ويسطع في أشعَّة العمل وخصال التَّربية ونموذج القدوة والمثال الَّذي تصنعه مؤسَّسات التَّعليم في مخرجاتها لِتصبحَ سواعد بناء ونهضة عِلم وعمل ومسارات للتَّغيير وإنتاج المواقف، ما يجعل الطَّلبة عنصرًا فاعلًا في صناعة التَّغيير، وعلى أُسُس واضحة من القناعة والالتزام والوعي.

ـ ربط الطُّفولة بشواهد البناء الَّتي سطَّرها الأجداد والآباء وبناء الجسور والتَّواصُل معهم، بحيثُ ينتقل الأجداد في فِقه الأطفال والنَّاشئة من مجرَّد ذكريات، إلى روح مُتجدِّدة وطاقة شحن ترفع من رغبة الأطفال في التَّواصُل مع الأجداد والاستماع إلى قصصهم والاستثمار في تجاربهم وخبراتهم باعتبارهم مرجعًا للقِيَم والحكمة، خصوصًا عِندَ توظيف المناسبات الدِّينيَّة والوطنيَّة والعائليَّة كفرص لإحياء هذا الارتباط وغرسه في وجدان الطُّفولة، واستثمار اللِّقاءات اليوميَّة داخل الأُسرة، كتناول الطَّعام أو القهوة، وما يَدُوْر فيها من حوارات ونقاشات، ويطرح فيها من أحداث الزَّمن الماضي وسِيرة الآباء والأجداد وغيرها من مفاخر ومواقف، منطلقات لبناء شخصيَّة الطُّفولة بأُسلوب يقترب من شغفهم ويتناغم مع رغباتهم واتِّجاهاتهم، ويتعايش مع طريقتهم في العيش وأُسلوبهم في التَّعبير، وتقريب هذه المفردات والمفاهيم في حياة الأطفال والتَّيسير في ممارستهم لها وتشجيعهم عَلَيْها، وتوفير الأحكام الَّتي تؤطِّرها بطريقة بسيطة ومَرِنة وروح منهجيَّة عالية.

ـ تعزيز الرَّقابة على محتوى الأطفال في المنصَّات الاجتماعيَّة وصون عقيدتهم وثقافتهم وفكرهم وقناعاتهم وشخصيَّتهم من أن تمسَّها أيادي العبث أو تؤثِّر عَلَيْها ضحكات المبتزِّين المهيّجة للإثارة والغريزة والسُّفور والانحلال الأخلاقي أو صيحات المُروِّجين للإلحاد والدِّعاية والإعلانات الجنسيَّة الهابطة؛ والوقوف بحزمٍ على انتشار جرائم التّحرُّش الجنسي، والأسباب الخفيَّة وراء ارتفاع حالات الشُّذوذ الجنسي واللّواط بَيْنَ الأطفال الذُّكور، ثمَّ الرَّقابة على المنصَّات والمواقع ومُروِّجي الدِّعاية والإعلانات الهابطة الموجِّهة للطُّفولة والشَّباب الَّتي تزيِّن هذه السُّلوكيَّات؛ والألعاب الإلكترونيَّة الَّتي باتتْ تستغلُّ الأطفال جنسيًّا، فإنَّ حماية الطُّفولة مسؤوليَّة تكامليَّة تبدأ من الأُسرة لِتشملَ كُلَّ مؤسَّسة في المُجتمع.

أخيرًا، فإنَّ الحوار، والتَّربية، والحماية، والتَّمكين، والاحتواء والتَّعليم وإعادة هيبة الأُسرة والضَّبط الاجتماعي واستغلال الإجازة الصَّيفيَّة وأوقات الفراغ في إعادة توجيه الاهتمام بالطُّفولة، مرتكزات لمشروع وطني متكامل يضع الرِّهان على الطُّفولة باعتبارها الاستثمار الحقيقي الواعد في أجيال واعية، محصَّنة، مُبدعة، يَجِبُ أن نحميَها ونرعاها بكُلِّ ما نملك من حُب واحتواء ووعي.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]