تخيَّل أن تستيقظَ ذات صباح لتجدَ باب منزلك موصدًا، ليس من الخارج فقط، بل من الدَّاخل أيضًا. لا صوت للحياة في الشَّوارع، ولا حركة في الأسواق، ولا أثَر لرغيفِ خبزٍ على طاولة الإفطار. ليس لأنَّك كسول أو غافل، بل لأنَّك محاصَر في وطنك، تُمنع من الخروج، ويُحرم جسدك من الطَّعام، وتُحاصَر روحك في صمتٍ قاتل. هذا المشهد، الَّذي قد يبدو خياليًّا للبعض، هو واقع مُر تعيشه ـ للأسف ـ شعوب كثيرة في لحظات الأزمات الكبرى، من الحروب إلى الأوبئة، ومن الانهيارات الاقتصاديَّة إلى الحصار السِّياسي. لكن ما لا يراه الكثيرون هو ما يحدُث داخل أجساد هؤلاء النَّاس، وما ينهار في داخل عقولهم ونفوسهم، حين يختلط الجوع بالخوف، والعُزلة بالقلق، وفقدان السَّيطرة بالإحساس بهذه الحياة!!
من النَّاحية الطبيَّة ـ إن استطعت القول ـ، يُعَدُّ الجوع القسري من أخطر التَّهديدات الحيويَّة للإنسان. فالجسم حين يُحرم من الطَّعام، يبدأ خلال ساعات باستنزاف مخزون الجلوكوز، ثمَّ يتحول إلى استهلاك الدُّهون، وبعد أيَّام إلى هدم العضلات والبروتينات. تظهر أعراض مِثل الهزال الشَّديد، ضعف المناعة، اضطراب ضربات القلب، ضمور العضلات، ونقص في الفيتامينات الأساسيَّة مثل فيتامين (ب 12)، والحديد، والزِّنك. بل يُعَدُّ الأطفال أكثر الفئات تضررًا من الجوع، حيثُ يؤدي الحرمان من العناصر الأساسيَّة إلى تأخُّر في النُّمو العقلي والجسدي، وضعف التَّركيز، والضُّمور العضلي، وخلَل في التَّطوُّر العصبي. وتُشير بيانات اليونيسف لعام 2023م إلى أنَّ أكثر من خمسة وأربعين مليون طفل يعانون من الهزال الحادِّ في مناطق النِّزاع والحصار، وهي حالة تُهدِّد الحياة إذا لم تعالج فورًا... فأين أصحاب مفهوم الإنسانيَّة؟
وللأسف الضَّرر لا يتوقف عِندَ الجسد لهؤلاء الضعفاء الصَّابرين. فالعقل هو أوَّل مَن يصرخ عِندَ الحصار. كيف لا؟ والعزلة المفروضة، المصاحبة للجوع، تمثِّل بيئة خصبة لانهيارات نفسيَّة قد تبدأ بهواجس بسيطة وتنتهي باضطرابات معقَّدة. فتظهر أعراض القلق، واضطرابات النَّوم، ونوبات الهلع، والاكتئاب. حيثُ توضح دراسة نُشرتْ في عام 2021 في إحدى المجلَّات الطبيَّة، بأنَّ الحصار الغذائي وغياب الحركة الاجتماعيَّة زادا من معدَّلات الاكتئاب بنسبة خمسة وثلاثين بالمئة، خصوصًا بَيْنَ النِّساء والأُمَّهات.
كما يواجه كبار السِّن الَّذين يعيشون وحدهم خطرًا نفسيًّا مضاعفًا، إذ يعانون من الشُّعور بالعزلة، وتكرار الذكريات المؤلمة، خصوصًا في ظلِّ غياب الدَّعم الأُسري أو المُجتمعي، هذا إن وجد في خضمِّ الحروب والحصار الجائر. أمَّا الأطفال، فيخزنون هذا الألم في ذاكرتهم مدَى الحياة، ما يؤثِّر على توازنهم العاطفي والاجتماعي في المستقبل.
فواقعيًّا المجاعة المصحوبة بالعُزلة ليسَتْ مجرَّد حالة طارئة، بل أزمة ممتدَّة تؤثِّر على النَّسيج الاجتماعي نَفْسه. فتنهار العلاقات، تضعف الثِّقة في مَن حَوْلِك، وتتحول المُجتمعات من مساحات تعايش إلى دوائر مغلقة من الصِّراع على البقاء، فيغلق الباب على كُلِّ شيء من التَّعليم، والصحَّة والعمل، وحتَّى الحلم!
ورغم هذه الصورة القاتمة، لا تزال هناك نافذة للأمل. فقد أثبتتْ تجارب بعض المُجتمعات أنَّ التَّكافل، والدَّعم النَّفْسي الطَّارئ، يُمكِن أن يحدثَ فرقًا حقيقيًّا ومعنويًّا... لِتقولَ لَهُم إنَّك ما زلتَ قريبًا مِنْهم! ختامًا، المجاعة ليسَتْ فقط نقصًا في الطَّعام، بل انتهاك للكرامة، واغتيال للسَّكينة، وتجويع للإنسان في أعمق معانيه. حين يُحاصَر الإنسان داخل وطنه، لا يموت جسده فقط، بل تموت أحلامه، وروحه، وحقُّه في الحياة الطبيعيَّة. لذا، فإنَّ كُلَّ صرخة صامتة لطفلٍ جائع، وكُلَّ دمعة لأُمٍّ لا تجد ما تطعمه لأبنائها، وكُلَّ تنهيدة لرجُلٍ حُرم من رزقه، يَجِبُ أن تسمعَ، ويستجابَ لها.. فالإنسانيَّة لا تُقاس بعدد الأرغفة المتاحة، بل بعدد الأيادي الَّتي تفتح الأبواب المغلقة وتكسر صمت الجوع بالرَّحمة والعمل الحقيقي.
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي