الجمعة 25 يوليو 2025 م - 29 محرم 1447 هـ

الجوع أصبح لغة القتل الجديدة

الجوع أصبح لغة القتل الجديدة
الاثنين - 21 يوليو 2025 01:04 م

إبراهيم بدوي

10


أنا لا أكتبُ هذه السُّطور من ترف التَّحليل، ولم أعُدْ أمارس مهنة الصِّحافة كمَن يتصفح المآسي عن بُعد، فما بعد السَّابع من أكتوبر أضحى أكتُب وأنا أشعر أنَّ شيئًا من إنسانيَّتي يتآكل كُلَّ يوم! فمَن تابع أخبار غزَّة ولدَيْه ذرَّة من ضمير، يَجِبُ أن يرصدَها من عُمق الوجدان حتَّى يستطيع إدراك المأساة الكبرى، الَّتي يعيشها العالَم أجمع وليس سكَّان غزَّة فحسب. فالانتماء هنا حتمي ليس للفلسطينيِّين، لكن للإنسانيَّة الَّتي تنتزع في كُلِّ مشهد أو صورة تخرج من هذا القِطاع المنكوب، لذا يَجِبُ ألَّا نراوغ ولا نبحث عن مبرِّرات الحياد، فما يحدُث هناك ليس مجازًا ولا عنوانًا عاطفيًّا، إنَّه واقع مجرَّد من الرَّحمة، سلاح اسمه التَّجويع، يستخدم بدم بارد، لهدم ما تبقَّى من حياة الفلسطينيِّين، وجرهم نَحْوَ موت لا يحمل رائحة البارود، بل صمت المَعِدة الفارغة، وعجز الأُم عن إرضاع طفلها، وانطفاء أعْيُن الصِّغار قَبل أن يمرَّ عَلَيْهم عامهم الخامس.

في يومٍ واحد، ثمانية عشر إنسانًا لفظوا أنفاسهم جوعًا، لا لشيء سوى أنَّ الاحتلال قرَّر أنَّ الغذاء جريمة، والماء تهديد، والدَّواء خطر، فقد بلغ عدد الشُّهداء بسبب المجاعة حتَّى الآن ستَّة وثمانين، من بَيْنِهم ستَّة وسبعون طفلًا.. وهنا تعجز الكلمات عن الوصف أو الرَّصد أو التَّحليل، فلا يوجد وصف أقسى من سرد الحقائق والأرقام، فالمستشفيات تستقبل مئات الحالات يوميًّا، أغلبهم يعانون من إجهاد حادٍّ، وأعراض تُشير إلى غياب كُلِّ مُقوِّمات البقاء، وذاك مشروع إبادة يمضي بخُطى ثابتة، هذا ما تقوله الأرقام، وما ترويه أجساد الأطفال الغضَّة، وما تعكسه نظرات الأطباء العاجزين، أمام نقص الأُسرة والمستلزمات، والمأساة كُلُّ المأساة أنَّ الطَّعام موجود، لكنَّه محتجز خلف الحواجز، وممنوع من المرور نَحْوَ من يستحق الحياة، في بلطجة لم يعرفها التَّاريخ.

إنَّ العجز الأكبر هنا نجده في منشور مكتب الأُمم المُتَّحدة للشُّؤون الإنسانيَّة، الَّذي يؤكِّد أنَّ العائلات في غزَّة تواجِه جوعًا كارثيًّا، والأطفال يذبلون من الجوع ويموتون قَبل أن يصلَهم الطَّعام...، ما يوجد جريمة أخرى تتعدى القتل والقاتل، تتجلَّى في السّكون العالَمي تجاه القتل، فأن يتحولَ الجوع إلى سلاح حرب، فذلك إعلان واضح بأنَّ الاحتلال الصُّهيوني قرَّر أن تكُونَ المعركة هذه المرَّة ضدَّ الرُّوح لا الجسد فقط، وصرخة (الأونروا) بأنَّ المخازن مليئة، لكن لا أحَد يسمح بإدخالها دليل آخر على التَّقاعس الدولي، الَّذي أضحى تواطؤًا فاجرًا مع تجويع شعب، ووأد وطن.. ومن أكثر ما هزَّ وجداني، أنَّ مسؤولي الوكالة الأُمميَّة أنْفُسهم يتلقون يوميًّا رسائل استغاثة من موظفيهم تقول ببساطة، إنَّهم يبحثون عن طعام لأطفالهم، ولا يجدون شيئًا، فأيُّ خذلان أعظم من هذا؟ وكأنَّ التَّجويع لا يكفي، يأتي القنص في طوابير الإغاثة لِيكتملَ المشهد الدَّموي، ففي مجزرة السودانيَّة وحدها، سقط أكثر من أربعة وتسعين شهيدًا وهم ينتظرون المساعدات، مشهد لا يتخيله العقل، ولا يُمكِن أن نشاهدَه إلَّا في أفلام الرُّعب الأميركيَّة، فالطَّعام يُلقى من السَّماء على الجوعى، والطَّلقات تطلق من الأرض نَحْوَ من يمدُّ يده إِلَيْه، لترتفعَ حصيلة الشُّهداء من مصائد الموت إلى تسعمئة وخمسة وتسعين شهيدًا منذُ أواخر مايو، فضلًا عن آلاف الجرحى والمفقودين. هل صارتْ نقطة توزيع الغذاء هدفًا مشروعًا؟ العدوان الصُّهيوني لا يتوقف، والحصيلة تقفز كُلَّ يوم نَحْوَ أرقام يصعب على الضَّمير تحمُّلها، وكأنَّ غزَّة ساحة مفتوحة للإفناء.

أسأل نَفْسي، وأسأل هذا العالَم: إلى متى سيقبل أن يتركَ أهْل غزَّة يموتون من الجوع، والعالَم يفاوض على إدخال شاحنة طحين؟! إلى متى ستظلُّ الكرامة الفلسطينيَّة موضوعًا للنِّقاش لا عنوانًا للتَّحرُّك؟ أقولها بمرارة، الإنسانيَّة تنهار، ولا وقت لمزيدٍ من الصَّمت، برغم أنَّ بوصلة الحلِّ واضحة، وقف هذا النَّزيف الدَّموي أوَّلًا، ثمَّ الإعمار، ثمَّ توحيد الصَّف الفلسطيني والانطلاق نَحْوَ استعادة الأرض والدَّولة، وكامل الحقوق الفلسطينيَّة.. فما يجري في غزَّة ليس إلَّا تمهيدًا لضربِ ما تبقَّى من الضفَّة الغربيَّة، وتحديدًا المُخيَّمات الَّتي ما زالتْ تحفظ ذاكرة العودة، ورغم كُلِّ ما يحدُث، فالفلسطيني سيجعل من الجوع وقودًا لتمسُّكه بحقِّه، وسيبقى المُخيَّم قلعة صامدة مهما طالتِ المجازر.

إبراهيم بدوي

[email protected]