الثلاثاء 22 يوليو 2025 م - 26 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

فخ الصوابية .. عندما تحجب قناعاتنا الحقيقية

فخ الصوابية .. عندما تحجب قناعاتنا الحقيقية
الأحد - 20 يوليو 2025 01:06 م

نبيلة رجب

20

رُبَّما أكثر شعور خداع جرَّبته في حياتي هو تلك الثِّقة الكاملة بأنَّني «دائمًا على حق». أتذكر موقفًا في مجلس عائلي قَبل سنوات، كنَّا نتناقش عن موضوع بسيط ـ لا تحضرني تفاصيله بالضَّبط ـ وكنتُ أجادل بكُلِّ ثقة وكأنّ رأيي حقيقة مُطلقة. كنتُ مقتنعة بأنَّني أرَى الصُّورة بوضوح، وأنَّ الآخرين مخطئون، وخرجتُ وأنا أشعر بأنَّني انتصرت. بعدها بأيَّام قليلة، اكتشفتُ أنَّني كنتُ مخطئة تمامًا. شعرتُ وقتَها بشيء يُشبه الحرج والغربة عن نَفْسي. لماذا كنتُ متشبثة إلى هذه الدرجة؟ لماذا لم أستمع؟

هنا أدركتُ للمرَّة الأولى أنَّ «الصوابيَّة» ليسَتْ فقط حالة فكريَّة، بل مشاعر مختلطة من الغرور والخوف. فهي تمنحنا إحساسًا زائفًا بالأمان، تجعلنا نعتقد أنَّنا نعرف أكثر من غيرنا، لكنَّها في الوقت نَفْسه تعزلنا عن الحقيقة، وعن الآخرين.

في حياتنا اليوميَّة، لا يكاد يخلو مجلس أو مكان عمل أو حتَّى وسائل التَّواصُل من مظاهر الصوابيَّة، هناك شعور عام بأنَّ كُلَّ شخص في موقع دفاع عن رأيه، مهما كانتِ الأدلة ضدَّه.

خلال جائحة كورونا ـ على سبيل المثال ـ كنتُ أقرأ جدالات النَّاس عن اللقاحات وأتساءل: لماذا تحوَّلتْ هذه الحوارات إلى معارك؟ كُلُّ طرف يُردِّد عباراته وكأنَّها حقائق مقدَّسة، ولا أحَد مستعدٌّ أن يعترفَ بأنَّه قد لا يعرف كُلَّ شيء.

حتَّى في العمل، لاحظتُ أنَّ الصوابيَّة يُمكِن أن تفسدَ كُلَّ شيء بَيْنَ الزملاء. عملتُ يومًا في مشروع مع زميل كان يرفض أيَّ اقتراح جديد فقط؛ لأنَّه لم يكُنْ من بُنات أفكاره أو لم يعتدْه. كُلُّ اجتماع كان ينتهي بجوٍّ ثقيل، وكأنَّنا نُعِيد الكلام بلا فائدة. وفي النِّهاية، فكرة رائعة طرحها زميل آخر ماتتْ في مهدها فقط؛ لأنَّ ذلك الشَّخص أصرَّ على رأيه وكأنَّها معركة شخصيَّة.

والمُخيف أنَّ هذه الحالة تتسرب إلى المُجتمعات بأكملها.

حين تتبنى جماعة ما فكرة أنَّها وحدها على صواب، تبدأ بالانغلاق، وبعد فترة تتحول إلى تعصُّب. رأيتُ بأُمِّ عيني كيف تنشأ خلافات صغيرة بَيْنَ أهل المكان، ثمَّ تكبر لأنَّ كُلَّ طرف يرفض التراجع ولو خطوة واحدة. عِندَها يتحوَّل الاختلاف إلى قطيعة، وأحيانًا إلى عداوة صريحة.

أعتقد أنَّ الصوابيَّة تُشبه جدارًا شفَّافًا: لا نراه بوضوح، لكنَّه يحبسنا داخل أنْفُسنا. أن تتجاوزَها يحتاج إلى شجاعة، لكنَّها شجاعة حقيقيَّة: أن تعترفَ أمام نَفْسك وأمام الآخرين أنَّك رُبَّما كنتُ مخطئًا. قد يبدو هذا سهلًا نظريًّا، لكنَّه في الحقيقة مؤلم وصعب.

في بعض المواقف، أجدُ نَفْسي أتراجع في منتصف النِّقاش وأقول بصوتٍ مسموع: «رُبَّما أنا غلطانة، كمِّل كلامك» أستغرب من ردِّ فعل النَّاس في كُلِّ مرَّة. فجأة يتغيَّر الجوُّ، يصبح الحوار أهدأ، وكأنَّ الاعتراف بالخطأ يفتح الباب للآخرين ليكُونُوا أكثر صدقًا هم أيضًا.

لا أدَّعي أنَّ لديَّ وصفةً جاهزة لتجنُّب وَهْمِ الشُّعور بالصوابيَّة. ما زلتُ أقع فيها. لكنَّها على الأقلِّ أصبحتْ مرآةً أرَى نَفْسي فيها. كُلَّما لاحظتُ أنَّني أرفع صوتي لأثبتَ أنَّني على حقٍّ، أعرف أنَّ الوقت قد حان لأتوقفَ قليلًا وأسأل نَفْسي: هل أريد أن أفوزَ بالنِّقاش أم أقترب من الحقيقة؟

جدَّتي ـ رحمة الله عَلَيْها ـ كانتْ تقول دائمًا: «الراس اللي ما يميل، ينكسر» وأظنُّ أنَّها كانتْ تقصد أنَّ العناد أحيانًا أقسى عَلَيْنا ممَّا نتخيل. الصوابيَّة ليسَتْ قوَّة، بل ضَعف مغلَّف بالغرور. والإنسان القوي هو الَّذي ينحني قليلًا لِيرَى ما فاته.

خاتمة القول: الحقيقة ليسَتْ مكانًا نصل إِلَيْه، بل رحلة طويلة. نكتشف في كُلِّ محطَّة أنَّنا لم نعرفْ كُلَّ شيء بعد. لذلك، دعونا نُخفِّف قليلًا من وطأة اليقين، ونسمح للشَّك أن يدخل. ففي هذا الشَّك، أحيانًا، نجد الحقيقة.

نبيلة رجب

كاتبة من البحرين

[email protected]