تُمثِّل حِقَب الاستعمار أصعبَ الحِقَب بالنِّسبة للشُّعوب الَّتي ظلَّتْ ردحًا من الزَّمن ـ أو لا تزال ـ تكتوي بنيرانه، حيثُ الحرمان ليس فقط من الثَّروات المُتعدِّدة الَّتي قادتْ إلى الاستعمار، وإنَّما الحرمان من الحُريَّة وسائر حقوق الإنسان كحقِّ التَّعليم والصحَّة والعيش الكريم والسِّيادة والاستقلال والتَّنمية الشَّاملة وغير ذلك.
وتحتفظ القارَّة السَّمراء بذاكرة تختزن تاريخًا طويلًا من المآسي والكوارث والآلام والفقدِ والفقرِ والجوع والمَرَض والاستعباد، في حين ما تزخر به من كنوز عظيمة من مصادر الثَّروة بِيَدِ المستعمِر، الفرنسي على وَجْه التَّحديد؛ لكونه المستعمِر الأكبر في القارَّة السَّمراء.
إنَّ ما يبعث الحسرة والألم ويحزُّ في النَّفْس أنْ تكُونَ ثروات الشُّعوب المستعمَرَة مصدرًا للرَّفاه والرَّخاء والتَّقدُّم الاقتصادي والعلمي والعسكري لشُعوبِ دولِ الاستعمار والاستكبار، في حين تَنهشُ أصحابَ الثَّرواتِ المستعمِرِين أنيابُ الجهلِ والفقر والمَرض والتخلُّف، وفوق ذلك أنْ يتحولَ هؤلاء المستعمِرون ـ القُدامى والجُدد ـ إلى قوى كبرى اقتصاديًّا وعسكريًّا وتتحكم في مصائر شعوب العالَم المغلوب على أمْرِها والمستضعَفة والمنهوبة ثرواتها.
التَّحوُّل الَّذي أخذتْ تشهده القارَّة الإفريقيَّة يبعثُ الآمال بأنْ تتخلصَ تدريجيًّا من حقبة الاستعمار المريرة، وتتطهر من رجسِه وتحذو حذوَها دوَل أخرى في هذا الإقليم وغيره من هذا العالَم.. فعلى خُطى النَّيجر وبوركينا فاسو ومالي وتشاد، سلَّمتْ فرنسا، الخميس الماضي، معسكر «غاي» في العاصمة داكار إلى القوَّات المُسلَّحة السنغاليَّة، في خطوةٍ أنهتْ وجودها العسكري في السنغال الَّذي استمرَّ (65) عامًا. حيثُ جرتْ مراسم التَّسليم بحضور رئيس أركان الجيش السنغالي الجنرال مبايي سيسي، والجنرال باسكال ياني، ممثِّل القيادة الفرنسيَّة في إفريقيا. وأعلن الرَّئيس السنغالي، باسيرو ديوماي فاي، مطلع العام الحالي، أنَّ بلاده ستُنهي جميع أشكال الوجود العسكري الأجنبي في أراضيها بحلول 2025، مؤكدًا سعيَه لتأسيس شراكات دفاعيَّة جديدة قائمة على النِّديَّة. وكان فاي صرَّح سابقًا بأنَّ «الوجود الفرنسي يتعارض مع السِّيادة الوطنيَّة للسنغال».
ويُمثِّل هذا الحدث نهاية الوجود الدَّائم للجيش الفرنسي ليس فقط في السنغال، بل أيضًا في غرب ووسط إفريقيا، في دلالة تُعَبِّر عن بدءِ تَبَلْوُر صحوة تتَّجه نَحْوَ مرحلة التَّحدِّي والإصرار على التَّمسُّك بالثَّوابت والاستحقاقات الوطنيَّة الَّتي تحفظ الكرامة والسِّيادة.. وهذا ما يَجِبُ أنْ يكُونَ ويَسُودَ كُلَّ دوَل القارَّة السَّمراء، وجميع الدوَل الحُرَّة، بحيثُ يُصبح خيار مقاوَمة الاستعمار بكُلِّ الوسائل المتاحة هو خيار الشُّعوب الحُرَّة.
المفارقة الغريبة واللافتة، هي أنَّه في الوقت الَّذي تتَّجه فيه دوَل مِثل دوَل القارَّة الإفريقيَّة نَحْوَ التَّحرُّر من ربقة الاستعمار الفرنسي، تتبنَّى بعض دوَل هذا الإقليم سياسات الخضوع والخنوع للمستعمِر الأميركي والبريطاني والفرنسي، حتَّى غدتْ في التَّوصيف السِّياسي والأدبي أنَّها مجرَّد مستعمرات تابعة للأميركي والبريطاني والفرنسي، تُنفِّذ ما يُملِيه عَلَيْها وما لا يُملِيه هذا المستعمِر للأسف الشَّديد. بل إنَّها أخذتْ تُشاركه والعدوَّ الصُّهيوني في إعادة رسم خريطة هذا الإقليم أو كما يُسمُّونه (الشَّرق الأوسط) وفْقَ اتفاقيَّة سايكس ـ بيكو ثانية، بحيثُ تتحول دوَل هذا الإقليم إلى دوَل خاضعة وخانعة ومستعمَرَة ومستباحة ومنزوعة السِّيادة، ويصير كيان الاحتلال الصُّهيوني ـ مع المُخطَّط الجديد ـ مستعمَرَة كبرى تُسمَّى «إسرائيل» تمتدُّ من النِّيل إلى الفُرات. ومَن يتابع تفاصيل هذا المُخطَّط وحيثيَّاته سيقف ـ دُونَ شك ـ على هذه الحقيقة.. فما يجري في دوَل الجوار لفلسطين المُحتلَّة ليس بمحض المصادفة أو عبَث العدوِّ الصُّهيوني، وإنَّما هو سريان اتفاقيَّة سايكس ـ بيكو الثَّانية. لذلك ـ إنِ استمرَّ هذا المُخطَّط إلى نهاياته ـ من الوارد جدًّا أنْ نجدَ دوَلًا اختفتْ وخرائط أُخرى تبدَّلتْ، وأنظمة زالتْ وغارتْ. حقًّا إنَّها مفارقة بَيْنَ مَن يبغي الحُريَّة والسِّيادة والاستقلال، وبَيْنَ مَن يبغي التبعيَّة والعبوديَّة والاستغلال!!
خميس بن حبيب التوبي