الثلاثاء 22 يوليو 2025 م - 26 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : الموت هو الخيار الوحيد

الأحد - 20 يوليو 2025 06:30 م

رأي الوطن

40

لقَدْ فقَدَ العالَم ما تبقَّى من إنسانيَّته حين لم تَعُدِ الحرب في غزَّة صراعًا تقليديًّا تطلق فيه النَّار بَيْنَ جبهتين، حيثُ تحولت إلى مسرح دموي مفتوح، تذبح فيه الإنسانيَّة بكُلِّ الطُّرق وأبشعها. ذلك أنَّ مشهد العشرات من الفلسطينيِّين المُمددين على الأرض، وجوههم مغطَّاة بالغبار والدِّماء، لا يترك مجالًا للشَّك بأنَّ الكيان الصُّهيوني الإرهابي، قد تجاوز كُلَّ مستويات الخسَّة المعروفة في تاريخ الحروب قديمًا وحديثًا، فالقصف يستهدف التجمُّعات السكانيَّة الَّتي تتجمع للحصول على فتات مساعدات إنسانيَّة، في مجازر متكررة يقتل فيها الأطفال فقط لأنَّهم حلموا بلقمة طعام، أيُّ عقيدة دمويَّة تلك الَّتي ترى في رغيف الخبز خطرًا وجوديًّا؟ هذا ما يحدُث يوميًّا في غزَّة، حيثُ صار الفلسطيني مخيرًا بَيْنَ موتٍ بالبطيء نتيجة الجوع، أو موتٍ فَوري نتيجة قصف متعمَّد، إنَّه خيار بَيْنَ الموت والموت.

ما جرَى في رفح والسودانيَّة وخان يونس ليس خطأً عسكريًّا، ولا حادثًا عرضيًّا يُمكِن تبريره بسطرٍ في بيان، نحن أمام استهداف مُمنهج لبَشَر يقفون في طوابير طويلة، أطفال على الأرصفة، أُمَّهات ينتظرن دَوْرًا في تلقِّي كيس دقيق أو حليب، فخلال يومين فقط، استشهد (43) فلسطينيًّا كانوا جميعهم في انتظار مساعدات، قُصفت خيامهم، وسُفكت دماؤهم على الإسفلت، مشهد مؤلم يتكرر منذُ أشْهُر، حيثُ أُجبر النَّاس على مغادرة منازلهم إلى (مناطق آمنة) قصفها الاحتلال مرارًا، ولم تتوقفْ آلة الموت عن طحن الأبرياء، ولم يرتجفْ للقاتل رمش، وهو يرى صوَر الأطفال الممزَّقة، الرَّقم وحده كافٍ لِيفضحَ كُلَّ ذرائعهم، فـ(891) شهيدًا سقطوا بَيْنَما كانوا يبحثون عن لقمة عيش، وكُلُّ شهيد مِنْهم يحمل قصَّة جوع، حلمًا صغيرًا بما يسدُّ رمقه، أو أمنية بدواء، هكذا تحوَّلتِ المساعدات إلى أفخاخ موت، وانتقل الصِّراع من ساحات الاشتباك إلى بطون خاوية.

لكن ما يزيد الجريمة فظاعةً هو انهيار المنظومة الصحيَّة الَّتي لم تَعُدْ قادرة على التَّعامل مع هذا الطوفان من الجرحى.. فسيَّارات الإسعاف لا تصل، والدِّماء تنقل على عربات الحمير، والمستشفيات تعيش حالة من الشَّلل الكامل بسبب انقِطاع الوقود والأدوية، فالطِّفل سراج ابن العامين ونصف العام نُقل بعربة إلى المشفى بعد أن استهدف وهو ينتظر مكملًا غذائيًّا؛ لأنَّه كان يشتهي طعمه الحلو، كما قالتْ والدته، هذا الطِّفل فقَدَ اثنين من إخوته وابنة عمِّه، لم يحملوا سلاحًا يومًا، كُلُّ جريمتهم أنَّهم جوعى، كما أنَّ الصورة الَّتي التُقطت له في العناية المركَّزة تختصر المشهد كُلَّه، طفل غافٍ بَيْنَ الحياة والموت، وأب يُقبِّل قدَمَه المرتجفة، وأُم تمسح دموعها في صمتٍ، بَيْنَما العالَم يواصل تبرير المجازر بصمتٍ أعنف من القذائف، أين هي الإنسانيَّة الَّتي كانت تزأر لحقوق الحيوان، بَيْنَما تحاصَر الطُّفولة في غزَّة حتَّى في أحلامها البسيطة؟

في كُلِّ هذه المأساة، تبقى المعابر مغلقةً، وشاحنات المساعدات مكدَّسة عِندَ الحدود، والاحتلال يسمح بدخول بعض الشَّاحنات، بَيْنَما سكَّان القِطاع بحاجة إلى خمسمئة شاحنة يوميًّا فقط للبقاء أحياء، المريض يُترك للموت؛ لأنَّ وحدات الدَّم نفدتْ، والجريح يُفارق الحياة قَبل أنْ يصلَ الإسعاف.. فالكيان الصُّهيوني الإرهابي أضاف التَّجويع والحصار كأسلحة حرب متكاملة، ولم يكتفِ بالقتل المباشر، ليؤكِّدَ أنَّه يهدف إلى كسر الرُّوح، وإبادة ما تبقَّى من حلم بالحياة، الكلمات لا تصف المنحدر الأخلاقي الَّذي يقع فيه العالَم، فمصطلح حرب إبادة لم يَعُدْ كافيًا لِيصفَ ما يحدُث، حيثُ تشهد أرقام الشُّهداء والمصابِينَ على أبشع جريمة عرفها العالَم، والَّتي يؤكِّدها مشهد طفل يدفن شقيقه بِيَدٍ واحدة، وأخرى تحاول أنْ تحملَ رغيفًا سُرقَ مِنْه حقُّ تذوُّقه، لا يُمكِن للعالَم أنْ يتذرعَ بالحياد؛ لأنَّ الحياد أمام الجريمة هو شراكة في ارتكابها، وما لم يخرجْ صوت الضَّمير العالَمي عن صمتِه، فإنَّ غزَّة ستُحاصر حتَّى في شهيقها الأخير.