«آن أوان اعتماد صيغة جديدة للسِّياسة، فالصِّيغ القديمة أخفقتْ إخفاقًا شنيعًا في الغرب، الديمقراطيَّة في أزمة، في الصِّين وروسيا يترسخ نَوع من الحُكم الاستبدادي المرتبط بهيمنة الشَّركات وأصحاب المصالح. وفي الشَّرق الأوسط تَسُود ألوان من الفوضى والعنف والقمع..». بهذه الافتتاحيَّة أعلن «كارن روس»، عن مشروع كتابه في مقدّمة نسخته العربيَّة، مطالبًا بتغيير النِّظام السِّياسي الَّذي يحكم العالَم، فقد بلغتْ معاناة النَّاس والفشل الذَّريع في معالجة مُشْكلاتهم، وتفاقم الأزمات الماليَّة والسِّياسيَّة واشتعال الحروب والتَّمييز العنصري.. الحدّ الأعلى الَّذي يصعب تجاهله، وذلك في شواهد وأمثلة لمآسٍ لا حصر لها يشهدها العالَم، عرض الكاتب لبعضها وناقش تفاصيلها بإسهاب، تأصيلًا وتأكيدًا على حقيقة الأفكار الَّتي تناولها وتخصُّ «عالَم القرن الواحد والعشرين شديد التَّعقيد واللّبس، في أنظمة معقَّدة، من شأن أفعال فرد واحد أن تحدثَ تغييرًا للنِّظام كُلِّه..». بلُغة أدبيَّة وكلمات أنيقة منتقاة بعناية، وعرض شيِّق تألفه نَفْس القارئ، وتستوعب بوضوح محتواه ومقاصده، صاغ «روس» كِتابه الغني بالمضمون، فالرُّؤية التحليليَّة حفرتْ عميقًا في تاريخيَّة ومسيرة وتفاصيل المشهد السِّياسي ـ الثَّقافي، وثورات العالَم الحديث، كشفتْ عن حصافة وخبرات الكاتب الواسعة الَّتي عبَّأت «الثورة بلا قيادات.. كيف سيبادر النَّاس العاديون إلى تولِّي السُّلطة وتغيير السِّياسة في القرن الحادي والعشرين»، بالشَّواهد والنَّماذج الحيَّة الأخاذة أنعشتِ الكِتاب وجعلتْ من محتواه ذا قِيمة عالية نابضًا بالحياة قابلًا للاستمرار في دراسته والاستفادة مِنْه وتعاظم فوائده... «لا تبدو الأمور سائرة كما هو مخطَّط لها. النِّظام معطَّل. إنَّه يُسهم في إنتاج الفوضى بدلًا من النِّظام. نحن في حاجة إلى شيء جديد. ظنَّ أنَّ من شأن انتهاء الحرب الباردة أن يبَشرَ بانتصار الديمقراطيَّة، مصحوبة بالاستقرار. وظنَّ من شأن العولمة أن تُمكِّنَ الجميع من الانطلاق مع موجة أبديَّة الصُّعود من الازدهار... إلَّا أنَّ العولمة تمخضتْ عن إطلاق تقلُّبات اقتصاديَّة عنيفة غير قابلة للتحكُّم. تريليونات الدولارات تنتقل من رصيد إلى رصيد بأسرع من قدرة الإنسان على ضغط مفتاح الحاسوب؛ لأنَّ ذلك اللوغاريتم هو الَّذي يتحكم في التجارة. بنوك وبلدان كاملة تنهار دُونَما إنذار ملموس. في الوقت نَفْسه، تسارعتْ وتائر اتِّساع الهوَّة الفاصلة بَيْنَ حفنة صغيرة من بالغي الثراء والآخرين في جميع المناطق وكُلِّ البلدان...». يأخذ الكاتب أربعة محاور أو مظاهر، كنماذج لمُشْكلات عصرنا الرَّئيسة، يسعى لدراستها وتحليلها، وتتمثل في: أنَّنا نعيش في نظام مترابط من شأنه أن يجعلَ من «تحرُّك فرد واحد أو جماعة صغيرة، التأثير في مجمل النِّظام بسرعة فائقة». إنَّ الخِطاب التَّنظيري الَّذي يُطلقه النِّظام لم يَعُدْ مقبولًا فـ»الأفعال، لا الأقوال، هي المقنعة». إنَّ «صناعة القرار يكُونُ أفضل حين يشمل النَّاس الأكثر تأثرًا». وأخيرًا، حسم الأمور من قبلنا أكثر فاعليَّة بدلًا من الوكالة ومنح الممثل سُلطة اتِّخاذ القرار نيابة عنَّا. وهذه الأعمدة «تُشكِّل نواة فلسفة الثَّورة بلا قيادات»، الَّتي تعتمد على أساس أنَّ الفرد يُمثِّل مشروعًا للتَّغيير والتَّحوُّل إلى حياة أفضل بطريقة هادئة سلميَّة بعيدًا عن العنف. تشريحًا مغلفًا بالألَم والأسَى والأمراض المُزمِنة قدَّمها الفصل المعنون بـ»إن هي إلَّا حافَّة الهاوية»، للجسد العالَمي الَّذي تتناوشه الأوبئة والكوارث البيئيَّة والأزمات الماليَّة، وتطوح به أخطاء السَّاسة وشهوات ونفوذ أصحاب الأعمال والمال الَّذين لا تعنيهم إلَّا خدمة مصالحهم ومضاعفة ثرواتهم وتوجيه السِّياسات والبرامج لخدمة أجنداتهم.. فولدتْ عالَما يئنُّ بخِطابات التشدُّد وأعمال العنف والإرهاب ومشاعر الحقد والكراهيَّة، ونبذ الآخر والتعصب الأعمى، وكونا تفترسه الأعاصير والزلازل والبراكين... فأيّ مستقبل نطمح إِلَيْه؟ وإلى أين تَقُود هذه السِّياسات السقِيَمة الإنسان؟ الَّذي يعاني من أزمة قيادات وإخفاقات نظام سياسي مترهل. حشد الكاتب هذا المحور بالكثير من الصوَر والنماذج الحيَّة الَّتي أوصلتنا إلى: انتشار الأوبئة القاتلة وفشل العالَم في احتوائها ـ حدوث الأزمات الماليَّة وانهيار الأسواق وإفلاس شركات وأفراد وارتفاع ثروات آخرين بلمح البصر ـ اتِّساع نطاق ممارسات وأعمال العنف وخطابات التعصُّب والتشدُّد والكراهية، الَّتي تدفع الحشود إلى التَّخريب والقتل ونشر الفوضى والرُّعب، والَّتي يُمكِن استغلال غضبها وحقدها من قِبل بضعة أفراد ومنظَّمات وأجهزة مخابرات لتدمير الأوطان ـ الارتفاع الخيالي والمتواصل لأسعار الغذاء والخدمات الضروريَّة بما يفوق كثيرًا قدرات المواطن العادي من الحصول على المتطلبات الأساسيَّة لحياة كريمة تتمتع بها أُسرته، بالإضافة إلى لجوء الدول الغنيَّة للاستحواذ على أراضٍ شاسعة واستراتيجيَّة للاستثمار الزراعي والعقاري والسِّياحي في دول تنوء بالمُشْكلات السِّياسيَّة والفقر والتخلُّف والجهل... في عالَم أقرب إلى أن يكُونَ «فوضى عالَميَّة جديدة»، وليس «نظامًا عالَميًّا جديدًا.. فالمُشْكلات المترتبة على تغيِّر المناخ، وتفشِّي الإرهاب، وتوالد الحروب المتواصلة في أمكنة كثيرة تتحدى التَّفاهم أو الحل، وحيثُ الانتصار أو الهزيمة أمران يبدوان بعيدين، مع نَوع من الهشاشة الاقتصاديَّة الأبديَّة». الوثائق الشَّخصيَّة، بدءًا من شهادات الميلاد والبطاقة الشَّخصيَّة ورخصة القيادة وملكيَّات الأملاك الخاصَّة، وغيرها الكثير، الَّتي تلزم بها الحكومات مواطنيها بمبرِّرات وصيَغ تبرِّر إلى أنَّ المقصد تحقيق «مصلحة المواطن»، هي في الحقيقة موجَّهة لخدمة القيادات وتقييد المواطنين وإخضاعهم بالضرائب والمراقبة والملاحقة والضَّغط عَلَيْهم للمشاركة في الانتخابات.. وجزء من الدِّعاية والاستهداف الَّذي تمارسه الشَّركات لِنكُونَ عملاء ومستهلِكِين لمنتجاتها.. بمعنى أنَّها تتحول إلى صكٍّ يَضْمن انصياع الجميع للأوامر العُليا وتعليمات القيادة داخل الحظيرة، ومن يخرج عن مظلَّتها يصبح مكشوفًا ومرئيًّا.. «في بريطانيا وجهتِ الحكومة للمرَّة الأولى رعاياها إلى ضرورة تسجيل الولادات، والوفيات، وحوادث الزواج في العام ١٥٣٨، وبالطبع فإنَّ الهدف، عِندَئذ كان متمثلًا في إخضاع الكتلة السكانيَّة للمراقبة بغية تعظيم فعالية تحصيل الضرائب. أمَّا اليوم فإنَّ المنطق الكامن وراء مثل هذا التَّسجيل، إذا ما جرَى به البوح بالمطلق، هو حماية المواطن. وبهذه الطَّريقة تنجح الحكومة في دسِّ أنفها في أساس حيواتنا ونسجها بالذَّات... فلم يسبق للميثاق النَّافذ بَيْنَ المواطن والحكومة أن كان مكشوفًا. إذ يُمكِنك قضاء حياة كاملة وأنتَ تدفع الضرائب، تطيع القوانين، من دُونِ أن تسأل لمرَّة واحدة عمَّا إذا كنتَ راغبًا في توقيع هذا الميثاق أم في الامتناع عن مثل هذا التوقيع...». يختم «كارن روس» دراسته النَّفيسة بجملة تُلخِّص واقع العالَم الإنساني الَّذي نعيشه، ومأزق النِّظامين السِّياسيَّيْنِ اللَّذيْنِ يحكمانه «المنظومتان الفكريَّتان المهيمنتان على القرن العشرين لا تمتلكان إلَّا مفاتيح جزئيَّة للعلاجات الضروريَّة اليوم. طرحت الشيوعيَّة مساواة زائفة على حساب التضحيَّة بالحُريَّة الفرديَّة. وقدمتِ الرأسماليَّة الحُريَّة على حساب العدالة الاجتماعيَّة، والتَّناغم، والإحساس الجوهري بالمعنى الفردي أو المشترك».
سعود بن علي الحارثي