الاثنين 21 يوليو 2025 م - 25 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

في الحدث : سلحفاة سراييفو وحمير غزة .. سياقات متشابهة للتاريخ

في الحدث : سلحفاة سراييفو وحمير غزة .. سياقات متشابهة للتاريخ
السبت - 19 يوليو 2025 01:30 م

طارق أشقر

30

احتفلتْ جمهوريَّة البوسنة والهرسك في يوليو الجاري باليوم العالَمي للذِّكرى الثلاثين لمذبحة سربينيتشا الَّتي راح ضحيَّتها ثمانية آلاف من البوسنيِّين خلال حرب البوسنة والهرسك الَّتي استمرَّت ثلاث سنوات (1992-1995) حيثُ وصل إجمالي ضحاياها بكافَّة أنحاء البلاد حسب الإحصاءات الأُمميَّة حوالي مئة ألف قتيل. تلك صفحة مأساويَّة طواها التَّاريخ من حيثُ ممارسة العمليَّات العسكريَّة الوحشيَّة، إذ انتهتْ حرب البوسنة باتِّفاق للسَّلام في عام 1995 بوساطة أميركيَّة تمَّ توقيعه في دايتون بولاية أوهايو الأميركيَّة.

وفي خضمِّ معارك البوسنة والهرسك وفظاعة التَّنكيل بالبوسنيِّين على يد الصِّرب الَّذين حاصروا العاصمة البوسنيَّة سراييفو ومارس فيها القنَّاصون الصِّرب مهاراتهم في اصطياد الضحايا لدرجةٍ تجاوزتْ «السَّاتر الأرضي» الَّذي يتَّخذه عادةً المتحاربون للاحتماء بسطح الأرض، فطالتْ طلقاتهم سلحفاة تُدعى «إرما» لم يزدْ ارتفاعها عن الأرض عن نصف قَدَم أصيبتْ بجروح بالغة، فنقلَتْها خبيرة حياة بريَّة أميركيَّة تُدعى «كدامر» إلى نيويورك للعلاج. وكنتُ خلال متابعتي لأخبار حرب البلقان حينها كتبتُ مقالًا بتاريخ 8/7/1995 بصفحة معنى الأحداث بهذه الجريدة (الوطن) العُمانيَّة الغرَّاء بعنوان «أسعد سكَّان سراييفو سلحفاة»، لم أغفلْ فيه الإطراء على إنسانيَّة الفتاة الأميركيَّة «كدامر» تجاه السّلحفاة البوسنيَّة «إرما»، ولكنَّي انتقدتُ فيه بشدَّة سلحفائيَّة المُجتمع الدّولي في معالجة الأزمة البوسنيَّة قَبل حسمها باتِّفاق دايتون. وها هو التَّاريخ اليوم يُعِيد نَفْسه، ولكن بسياقات أخرى، عناصرها الأساسيَّة مفردات متنوِّعة، مِنْها صنف «الحيوان» الَّذي استخدمه الإنسان كسُلوك انصرافي عن المُشْكلة الحقيقيَّة، ومفردة «المدَّة الزمنيَّة» للحرب و»أعداد القتلى والمجوَّعين بلا رحمة»، «وسلحفائيَّة البحث عن حلول» و»تشابُه سيناريوهات الحلول» كما يبدو.

ففي سياق إعادة التَّاريخ لِنَفْسه عَبْرَ مفردة صنف «الحيوان» قرأتُ في هذا الأُسبوع بالموقع الإلكتروني لإحدى القنوات الفضائيَّة العربيَّة الشَّهيرة تقريرًا مميزًا لأحَد مراسليها انتقد فيه مفارقات الواقع المأساوي بقِطاع غزَّة، موضحًا بأنَّ وسائل إعلام «إسرائيليَّة» كشَفتْ عن قيام الجيش «الإسرائيلي» بنقل مئات الحمير من غزَّة إلى داخل «إسرائيل» بزعم إنقاذها من صدمات نفسيَّة وجسديَّة.

وبهذه المقاربة بَيْنَ «إرما سلحفاة سراييفو» الَّتي حظيتْ برأفة خبيرة الحياة البَريَّة «كدامر» ونقلَتْها إلى نيويورك للعلاج، وبَيْنَ «حمير غزَّة» الَّتي نقلَتْها «إسرائيل» لرعايتها والطبطبة عَلَيْها داخل الأراضي الفلسطينيَّة المُحتلَّة حفاظًا على اتِّزانها النَّفْسي، تتضح حقًّا انصرافيَّة القناعات الإنسانيَّة الَّتي تتبناها الثَّقافة الغربيَّة أينما كانتْ جغرافيَّتها المكانيَّة، وزيف ادِّعائها الرِّفق بالحيوان حتَّى في ظلِّ أستعار المعارك الَّتي يروح ضحيَّتها الآلاف من بني «الإنسان» مِثلما جرى بسراييفو وسربينيتشا بالبوسنة، وما زال جاريًا في حق إنسان غزَّة بفلسطين وفي حق مَن بغيرها بالكرة الأرضيَّة حيثُ يعيش الإنسان الَّذي صرف عن الأنظار أخاه الإنسان بل حتَّى إعلاميًّا. وفي سياقات المدَّة الزمنيَّة للحربَيْنِ موضوع المقاربة وأعداد القتلى والمجوَّعين، يُعِيد التَّاريخ نَفْسه، حيثُ استمرتْ حرب البوسنة «ثلاث» سنوات دامية، في حين أنَّ الحرب الحاليَّة على غزَّة الَّتي بدأت في 2023 تقترب لعامها الثَّاني مع مخاوف من أن تبلغَ عامها «الثالث» إن لم تحظَ بحلٍّ جذري لها.

وفيما بلغ عدد ضحايا حرب البوسنة (1992-1995) حوالي المئة ألف قتيل وأعداد مأهولة من الجرحى والمفقودين، فقد بلغ عدد ضحايا الحرب على غزَّة حسب إحصائيات وزارة الصحَّة الفلسطينيَّة حتَّى الجمعة الماضية سبعة وخمسين ألفًا وثمانمئة وثلاثة وعشرين شهيدًا. وباعتبار تتابع وصول عشرات الشُّهداء والمُصابِينَ للمستشفيات الفلسطينيَّة كُلَّ أربع وعشرين ساعة، فإنَّ العدد مرشَّح للوصول قريبًا إلى حوالي المئة ألف شهيد طالما في يوم الجمعة الماضية وحده وصل لمستشفيات غزَّة واحد وستون شهيدًا، بمعنى أن أسبوعًا واحدًا كفيل ببلوغ المئة ألف شهيد في حال استمرار الصلف «الإسرائيلي» بنفس مستواه المألوف.

أمَّا سياق سلحفائيَّة التَّحرُّك نَحْوَ نهايات الأزمتين وتشابه سيناريوهات الحلول كما يبدو في أُفق أزمة غزَّة، فإنَّ ما شهدته أزمة البوسنة من سلحفائيَّة الأُمم المُتَّحدة في حفظ السَّلام بسراييفو الَّتي كانتْ محاصرة حينها وبطء التَّحرُّكات الأوروبيَّة تجاه حسم الصِّراع في وقت كانتْ فيه أميركا متحمسة للحلول السريعة عَبْرَ الدَّفع نَحْوَ فكِّ حظر السِّلاح عن البوسنة وتسريع قيام حلف النَّاتو بضربات جويَّة ضدَّ الصِّرب ووصولًا إلى اتِّفاق دايتون الَّذي أوقف الحرب، فإنَّ نَفْس تلك السلحفائيَّة تتكرر حاليًّا بأزمة غزَّة. فرغم التفاؤل الَّذي يَسُود مفاوضات صفقة التبادل بَيْنَ حماس و»إسرائيل» إلَّا أنَّ ارتفاع السقف «الإسرائيلي» بشأن مسألة انسحاب جيشها داخل القِطاع، تتزايد المخاوف من أن تخرق «إسرائيل» أيَّ اتِّفاق بِدُونِ ضمانات يتمُّ التَّوصُّل إِلَيْه حَوْلَ مسألة انسحاب الجيش «الإسرائيلي»، ممَّا يؤثِّر على مستوى الالتزام بالاتِّفاقات بَيْنَ الطرفيْنِ، وبالتَّالي يُعزِّز التلكُّؤ في الوصول إلى تسوية شاملة.

أمَّا تشابُه سيناريوهات الحلول، فإنَّ انتهاء حرب البوسنة باتِّفاق للسَّلام بوساطة أميركيَّة أسكتَ البندقيَّة، رُبَّما يكُونُ مماثلًا لسيناريو إصرار الرَّئيس الأميركي ترامب على الوصول لاتِّفاق لوقف إطلاق النَّار بغزَّة، وهو إصرار رُبَّما يَقُود إلى حلٍّ يتناغم مع التصور الأميركي لحلِّ الأزمة الَّتي نأمل أن تتبلور كُلُّ الجهود الدوليَّة بما فيها العربيَّة والأميركيَّة نَحْوَ تسويتها عَبْرَ اعتماد حلِّ الدَّولتينِ وليس وقف إطلاق النَّار فقط.

طارق أشقر

[email protected]

من أسرة تحرير «الوطن»