عندما تتأمل أحداث الهجرة قبل وفي أثناء وبعد انتهائها، تتأكد أن الله وعنايته، وحسن رعايته تابعت أحداثَها لحظة بلحظة، وأن فضله ـ جلَّ جلاله ـ قد أحاطها في كل دقائقها، ومراحلها، وجعل جميعَ عالم الكون: إنسًا وجنًّا، مؤمنين وكافرين ومشركين، وجمادًا، وإنسانًا، وحيوانًا، وطيرًا، وحشراتٍ، وترابًا، وحجارة، وغارًا، وقماشًا.. وغيره من مخلوقات الله، تجده كله قد شارك في أحداثها، ونجاحها، ووصولًا بها إلى غاياتها، وجليل أهدافها، وسامي مقاصدها.
وكلُّ شريحة مما سبق قَدَّمَتْ واجبَ النصرة، وفرضَ العون، وأسهمت بنصيب غير قليل من الجهد، ووضعتْ لبنة كريمة في صرحها العملاق، وقصرها المنيف، وأهدافها الكبار، ومعانيها الغزار، وجميعها قد أسهم إسهامًا كبيرًا في وصولها إلى غاياتها.
وتعالَوا نتجول في بساتينها، ونعتبق بعضًا من عبيرها، ونتقلب في ظلالها، ونشتم عبقا من رحيقها، ونعتبق شذًا من شذاها، ونتذوق بعضا من رحيقها السلسال، ورضابها المعسال، وأهدافها الطوال، فهي في ذلك كله خير مثال.
من هذه القراءة دخولُ شريحة التراب، والحجارة في إنجاح الهجرة، اتضح ذلك من استعمال التراب وسيلة في نجاحها ذلك التراب الذي وضعه الرسول في أثناء خروجه من بيته، بعد أن أنام الله أربعين فارسا جمعتهم قريش من أربعين قليلة في يد كل فارس منهم سيف حتى إذا خرج الرسول الكريم انفضت السيوف عليه وسال دمه بين القبائل فلا يعرف بنو هاشم القصاص له، ويقبلون الدية، وتنتهي قصته، غير عالمين أمه مؤيد من رب السموات والأرض، وأنه مانعه من أن يقترب منه شيء من الأذى، فسلب الله منهم نعمة اليقظة، فغطوا في نومهم وتام سباتهم، حتى خرج الرسول من بينهم وهو يقرأ بكل ثبات قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون).
كأن الرسول يمضي بين سدين، وحصنين محصَّنَين يحفظانه، وكأن نورَ العين قد سلب منهم جميعا فهم لا يبصرون؛ لأنه في معية الله، والله لا تدركه الأبصار.
عظمة، وقوة، وقدرة لا يتصورها عقلٌ، ولا يتخيلها بشر، ولا تقع تحت أي تفكير، فالأمر خارج عن قدرات البشر، فلو أن الأرضَ كلَّها كانت ضده لنصره اللهُ عليهم، ولما مَكَّنَ الأرض كلَّ الأرض منه، ولحَمَاه، وصانه، ورعَاه، لابد أن يتأكد الداعية، والمتَّبِع للرسول أن الله مانعه، ومُحصِّنه في مشوار دعوته، وسبيل استمرار عمله بكل قوة، وثبات، وإصرار، وهدوء، ولا عليه، فيمضي رابط الجأش، قوي الجنان؛ لأن الله معه.
فالتراب الذي وضعه الرسولُ الكريم على تلك الرؤوس يعني أنه رأسٌ لا وزنَ له، وأنه رأسٌ قد حمل عقلا معطَّلا، وفكرا مهترئا، ونفسًا متدنية، طينية، يجب ملؤها بالتراب، وتستحق أن تَرْزَحَ في الرُّغام، وتُمَرَّغَ في التراب، فهي أولى به، وهم أحقر من أن تظل رؤوسهم نظيفة، بل يجب أن تكون معفَّرة، متربة، مُطَيَّنَة، ينهال الترابُ من فوقها؛ لأنها عطلت رأسها، وما حواه من عقل، ونعم، ولم تحسن استغلال النعمة في إرضاء الله.
وأما الحجارة فقد قامت كذلك بواجب النصرة، وقد تمثل ذلك في الغار الذي هو حجارة كبيرة في أعلى الجبل، تتجمع في صورة كهف صغير، أو غار يخفي مَنْ في بطنه يدخله، ويحميه من أعين الناس، وحَرِّ الصحراء، ونار الشمس المحرقة، في الجزيرة العربية. ورغم هذا التخطيط الهائل الذي قام به الرسولُ الكريمُ، وصاحبه حتى وصلا إلى الغار، إلا أن قريشًا لحذقها في قصِّ الأثر، وفن العِيافة، وإلمامهم بتتبع الأقدام حتى وصولهم إلى غايتهم، ومع وصولهم إلا أن الله أوقف تفكيرَهم، وحجب عقولَهم أن يفكروا في الدخول، حتى قال سيدنا أبو بكر؛ خائفا على الرسول الكريم: (يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا)، هذا خوفٌ مشروعٌ من إنسان محب، وَجِلٍ، وخائفٍ على قائد الأمة، ورسولها، ونبيها، فلو ماتَ ماتتْ معه دعوته، وراحت جهودُه، وانتهى دينُه. لكنَّ الرسول الكريم رَدَّ عليه بكل هدوء، واتِّئَادِ قلب، وثباتِ فؤاد، ورباطة جأش، وفصاحةِ لسانٍ، وأتمِّ بيان:(يا أبابكر، ما بالك باثنين، الله ثالثهما، لا تحزن، إن الله معنا(، وقد فسَّرْتُ ذلك في مقال خاص بعنوان:(التحليل اللغوي لبعض تراكيب الهجرة في القرآن والسنة).
وكما نرى فقد قام الحَجَرُ بواجب النصرة، وأخفى الرسول الكريمَ، وصاحبه، وحماه بأمر الله من أن يناله شيء، أو يلحق به أذى، وظل يحميه طيلة الأيام الثلاثة حتى مضى.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن شريحتَيِ الطير، والحشرات:(اليمامة والعنكبوت) قد قامت بدور النصرة، وإنجاح مراحل الهجرة؛ ذلك أنه قد جاء في السيرة أن يمامة كانت قد عشَّشَتْ في مقدمة الغار، فهي هائمة، نائمة في عشها، وحولها عنكبوت قد نسج خيوط بيته على الغار، وهذا يعني أنه لو دخل الرسول الكريم، وصاحبه هنا، لطارت اليمامة، ولتهتَّك بيت العنكبوت لضعفه، واهترائه:(وإن أوهن البيوت لبيتُ العنكبوت).
فدخل عليهم هذا الخداعُ، وذلك الإيهامُ، في أنه لو دخل الرسول الكريم، وصاحبه هنا، لانتهى أمر اليمامة، وطارت، وتركت عشها، ولهدم بيت العنكبوت كذلك.
وهنا يبرز مبدأ للداعية في اليقين بأن الله تعالى لن يترك عبادَه الدعاةَ، الذين وقفوا أنفسهم، وأنفاسهم فداء لدينهم، ودفاعا عن حياضه بدمائهم، وبذلا لكل غال، ورخيص في سبيل نصرته، والذود عنه، والعمل بكل إخلاص لنشره، وهم متأكدون من أن ربهم معهم، ولن يتخلى عنهم، وهم في حرزه، وحصنه، وعين رعايته، ومعيته، وحمايته.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية