الجمعة 18 يوليو 2025 م - 22 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

هل تغرق الجزر البريطانية؟

هل تغرق الجزر البريطانية؟
الأربعاء - 16 يوليو 2025 01:30 م

د.أحمد مصطفى أحمد

20

تتميز بريطانيا بخصائص عدَّة، ليسَتْ كُلُّها إيجابيَّة، ففضلًا عن أنَّها كانتْ في وقت ما قَبل أكثر من قرن «إمبراطوريَّة لا تغرب عَنْها الشَّمس» تحتلُّ مساحات واسعة من قارَّات العالَم، إلَّا أنَّها لم تكُنْ مثل الإمبراطوريَّات الأوروبيَّة الأُخرى. كما أنَّها وإن عدَّت بشكلٍ عام ضِمن «أوروبا الغربيَّة» إلَّا أنَّها مفصولة عن القارَّة الأوروبيَّة تحدُّها المياه من كُلِّ جانب. ورغم أنَّه يفصلها عن أميركا الشَّماليَّة المحيط الأطلسي، إلَّا أنَّها أكثر ارتباطًا مثلًا بدوَل العالَم الجديد (الولايات المُتَّحدة وكندا) من بقيَّة أوروبا والغرب. وتختلف تاريخيًّا عن أغْلَب بلاد المعمورة من استخدام المقاييس والأوزان إلى قيادة السيَّارات على اليمين وليس اليسار. ورغم التَّغيُّرات الَّتي شهدها العالَم ما بعد الحرب العالَميَّة الثَّانية منتصف القرن الماضي، وانهيار إمبراطوريَّات الاستعمار القديم، إلَّا أنَّ بريطانيا ما زالتْ تعيش على هذا المجد الزَّائل.

يُعزِّز ذلك الشُّعور أنَّ ما تُسمَّى دوَل العالَم الجديد، أميركا الشَّماليَّة وأستراليا ونيوزيلاندا، ما زالتْ تنظر إلى بريطانيا باعتبارها أصلها التَّاريخي. ذلك على الرّغم من أنَّ المغامرين الَّذين قاموا بغزو تلك البلاد وإبادة سكَّانها الأصليِّين، في عمليَّات تطهير عِرقي تفوق في بشاعتها حروب العصور الظلاميَّة الأوروبيَّة في القرون الوسطى، جاءوا من كُلِّ دوَل أوروبا وليس فقط من بريطانيا. لا شك أنَّ هناك عوامل في السَّابق حافظتْ على هذا التميُّز، سواء اقتصاديَّة أو ثقافيَّة أو غيرها. لذا، ما زال كثيرون حَوْلَ العالَم يعدُّون بريطانيا نموذجًا للديموقراطيَّة التمثيليَّة كنظام سياسي. إلَّا أنَّ كُلَّ ذلك تقريبًا انتهى الآن أو كاد، ولا يحافظ على تماسُك واستمرار الجزر البريطانيَّة ضِمن «المملكة المُتَّحدة» سوى بقايا النِّظام الَّذي ترسَّخ على مدى قرون؛ أي أنَّها تَسير حاليًّا بما يُمكِن اعتباره «الدَّفع الذَّاتي». مع ذلك، تجد بريطانيا تزايد أحيانًا على القوَّة الجديدة في العالَم ـ أميركا ـ كما نرَى منذُ بدء الحرب في أوكرانيا وفي الصِّراع الغربي مع الصِّين وغير ذلك.

كُلُّ ذلك الإرث غير المادِّي الَّذي وفَّر ميزة لبريطانيا يظلُّ أثَره باقيًا رغم التَّدهوُر، جريًا على المَثل الشَّعبي القائل: (الورد مهما ذبل يفضل عبيره فيه). لكنَّ الجزر البريطانيَّة تتعرض الآن لاحتمالات تدهوُر مادِّي يُهدِّد بقاءها على المدى الطَّويل. ففي دراسة نُشرتْ قَبل أيَّام لهيئة الأرصاد البريطانيَّة بالاشتراك مع المركز الوطني لعلوم المحيطات ظهر أنَّ منسوب المياه عِندَ السَّواحل البريطانيَّة يرتفع بمعدَّلات أعلى بكثير عن المعدَّلات العالَميَّة في الثلاثين عامًا الأخيرة. وخلصتِ الدِّراسة إلى أنَّ هذه هي المرَّة الأولى الَّتي يُهدِّد فيها ارتفاع مستويات سطح البحر المناطق الساحليَّة البريطانيَّة. صحيح أنَّ العالَم كُلَّه يشهد تغيُّرات مناخيَّة نتيجة الانبعاثات المُسبِّبة للاحتباس الحراري، لكن الواضح أنَّ بريطانيا بتميُّزها التَّاريخي تنال القدر الأكبر من تبعات تلك التَّغيُّرات المناخيَّة. هذا على الرّغم من أنَّ الانبعاثات من بريطانيا ليسَتْ كتلك الَّتي تخلِّفها الولايات المُتَّحدة أو الصِّين أو حتَّى دوَل أوروبيَّة أُخرى أكثر تلويثًا للمناخ. تفصِّل الدِّراسة كيف أنَّ موقع الجزر البريطانيَّة في الجزء الشَّمالي من المحيط الأطلسي يؤدِّي دَوْرًا في زيادة هذا التَّهديد لكن ذلك لا يفسِّر تمامًا لماذا بريطانيا؟ فهناك دوَل شمال غرب أوروبا مثلًا الَّتي لا يختلف موقعها الجغرافي كثيرًا عن بريطانيا. حتَّى رغم أنَّ تلك الدول هي جزء من القارَّة الأوروبيَّة إلَّا أنَّ مياه البحار تتخللها بما يجعل بعضها أقرب لمجموعات الجزر أيضًا.

رغم النَّتائج المُثيرة للدِّراسة والتَّحذيرات الَّتي تخلص إِلَيْها فإنَّ خطر غرق الجزر البريطانيَّة يظلُّ بعيدًا، حتَّى لو أنَّ ارتفاع منسوب المياه زاد بتلك الوتيرة، فرُبَّما لا ينال إلَّا من المناطق الشاطئيَّة. لكن في ظلِّ التراجع الحالي عالَميًّا عن أهداف مكافحة تغيُّرات المناخ، وما نشهده من تصاعد الظَّواهر الطَّبيعيَّة النَّاجمة عن قرون من تلويث الإنسان للبيئة يصعب التنبُّؤ بما يُمكِن أن يحدث. فالارتفاع المطَّرد في درجات الحرارة على كوكب الأرض وبالتَّالي ذوبان الكتل الجليديَّة الهائلة في المناطق القطبيَّة والتيَّارات الدَّافئة في المحيطات كُلِّها تزيد من مخاطر التسونامي وإغراق مساحات من البسيطة. وعِندَ نقطة ما قد لا تنحسر المياه عن الأراضي الواطئة فتصبح غير قابلة لمعيشة البَشَر. يشهد العالَم ظواهر دالَّة جدًّا، من كوارث الشَّواطئ الغربيَّة الأميركيَّة مثل كاليفورنيا وشواطئها الشَّرقيَّة الجنوبيَّة إلى حرائق جنوب أوروبا وبالطَّبع في أغْلَب جنوب شرق آسيا وشِبه القارَّة الهنديَّة. إنَّما تظلُّ بريطانيا مميّزة أيضًا في تعرُّضها لتلك الظَّواهر الطَّبيعيَّة النَّاجمة عن التَّغيُّرات المناخيَّة. لَطالَما شكَّل الموقع الجغرافي للبلاد ميزة استراتيجيَّة لها، لكن في ظلِّ التقلُّبات الطَّبيعيَّة الحاليَّة والمستقبليَّة قد تنقلب الميزات إلى مثالب.

مُشْكلة بريطانيا حاليًّا أنَّ تعرُّضَها لأيِّ مخاطر بفعل غضب الطَّبيعة قد يزيد من تردِّي أوضاعها، خصوصًا وأنَّها بعدما خرجتْ من الاتِّحاد الأوروبي (بريكست) لم تَعُدْ ضِمن أنظمة أوروبيَّة كثيرة للحماية من المخاطر. ورغم الحديث الإنشائي عن «العلاقة الخاصَّة» مع الولايات المُتَّحدة فإنَّ واشنطن ليسَتْ مستعدَّة لمساعدة أحَد. وبالتَّالي يضاعف من تلك المخاطر البيئيَّة أنَّ الإمبراطوريَّة السَّابقة رُبَّما لا تجد من الموارد والعون ما يُمكِّنها من مواجهة تلك التَّحدِّيات القادمة.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]