الخميس 17 يوليو 2025 م - 21 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : تهويد الأرض وإلغاء الدولة الفلسطينية قبل ولادتها

الأربعاء - 16 يوليو 2025 06:30 م

رأي الوطن

30

تُواجِه الأرض الفلسطينيَّة لحظةً شديدة الخطورة لم تشهدْها طوال تاريخها الطَّويل؛ إذ تتسارع التَّحرُّكات الاستيطانيَّة للكيان الصُّهيوني الغاصب في الضفَّة الغربيَّة والقدس المُحتلَّة، بما يُنذر بتصفية ميدانيَّة لمفهوم الدَّولة الفلسطينيَّة من جذوره، فقَدْ حذَّرتْ وزارة الخارجيَّة والمُغتربِينَ الفلسطينيَّة من نيَّات قوَّات الاحتلال استئناف العمل في المشروع الاستيطاني الاستعماري المعروف بـ»E1»، وهو مشروع أعلن عَنْه ما يُسمَّى بـ(المجلس الأعلى للتَّخطيط والإدارة المَدَنيَّة)، ويستهدف بناء أكثر من (3000) وحدة استعماريَّة جديدة في محيط شرق القدس المُحتلَّة، ما يعني عمليًّا قَطْع التَّواصُل الجغرافي بَيْنَ أجزاء الضفَّة الغربيَّة، وفَصْل القدس عن محيطها الفلسطيني من الجهات الأربع، وهذا التَّحرُّك يُشكِّل خطوةً مدروسة تهدف إلى إغلاق أيِّ نافذة سياسيَّة ممكنة لحلِّ الدَّولتَيْنِ، وتحويل الأرض الفلسطينيَّة إلى رقعٍ معزولة، غير قابلة للسِّيادة أو الاستقلال.. البيان الفلسطيني الرَّسمي طالبَ الأُمم المُتَّحدة ومجلس الأمن بتحمُّل مسؤوليَّاتهما، كما دعا الدوَل الَّتي تدَّعي دَعْمَ السَّلام إلى اتِّخاذ موقف حقيقي وفعَّال. فالخطر تجاوزَ مرحلة التَّحذير، حيثُ دخلَ المشروع طَور التَّنفيذ الميداني المُمنهج.

في هذا السِّياق التَّصعيدي، لا تبدو الضفَّة الغربيَّة في منأى عن الكارثة، فقَدْ سجَّلتْ تقارير أُمميَّة أنَّ موجة النُّزوح الجماعي في الأراضي المُحتلَّة بلغتْ مستويات غير مسبوقة منذُ عام 1967، فيما باتتْ عشرات آلاف العائلات الفلسطينيَّة دُونَ مأوى؛ جرَّاء العمليَّات العسكريَّة الَّتي يشنُّها جيش الاحتلال شمال الضفَّة، خصوصًا في جنين وطولكرم، وقَدْ وصفتْ مفوضيَّة الأُمم المُتَّحدة لحقوق الإنسان هذه الممارسات بأنَّها تندرج ضِمن (جرائم ضدَّ الإنسانيَّة)، وقَدْ ترقَى إلى مستوى (التَّطهير العِرقي)، وهو توصيف نادر الحدوث في الأدبيَّات الأُمميَّة، لكنَّه يعكس حجم المأساة الجارية، كما أكَّدتِ التَّقارير أنَّ المستوطنِين الصَّهاينة، وبدعمٍ مباشر من قوَّات الاحتلال، نفَّذوا خلال النِّصف الأوَّل من العام أكثر من (750) هجومًا على المَدَنيِّين الفلسطينيِّين؛ ما أدَّى إلى مئات الإصابات، وتهجير آلاف السكَّان، وهدمِ مئات المنازل، والهدف ليس فقط استهداف الأفراد، وإنَّما تفريغ الأرض من سكَّانها الأصليِّين، وخلق واقع جديد بالقوَّة، والنَّتيجة أنَّ الخريطة الديموجرافيَّة للضفَّة تتعرض لتفكيكٍ متعمَّد، يهدف إلى سَحْبِ البساط من أيِّ مشروع سيادي فلسطيني في المستقبل.

أمَّا في قِطاع غزَّة فإنَّ الوضعَ تجاوزَ كُلَّ خطوط الكارثة، وتحوَّل إلى واحدة من أبشع صوَر الإبادة الجماعيَّة في التَّاريخ الحديث. فمنذُ السَّابع من أكتوبر الماضي، يشنُّ الكيان الصُّهيوني الغاصب حرب إبادة جماعيَّة شاملة على سكَّان القِطاع، أدَّتْ إلى سقوط ما يزيد على (197) ألف شهيد وجريح، مُعْظمهم من الأطفال والنِّساء. ووفَقًا لوكالة الأونروا، فإنَّ ما يُعادل فصلًا دراسيًّا كاملًا من الأطفال يستشهد يوميًّا بفعل الغارات والقصف والاستهداف المباشر للمساكن والمدارس. وقَدْ وثَّقتِ المنظَّمة استشهاد أكثر من (18) ألفَ طفلٍ، ووصول أكثر من (16) ألفًا آخرين إلى المستشفيات بجروح بليغة، حيثُ صارتْ مأساة الأطفال الفلسطينيِّين ملفًّا قضائيًّا دوليًّا يَجِبُ أنْ يتحركَ في محاكم الجرائم الكبرى، فالقصف لم يتركْ مدرسةً، ولا ملجأً، ولا مُخيَّمًا للنَّازحين إلَّا واستهدفه، ما تسبَّب في انهيار البنية المُجتمعيَّة لغزَّة بالكامل، وجعلَ من الحياة اليوميَّة تحدِّيًا وجوديًّا.. ومع تواصُل الحرب، تؤكِّد الأُمم المُتَّحدة أنَّ هناك حاجةً لتحقيقٍ شاملٍ وشفَّاف، ولكنَّ الأهمَّ هو الضَّغط الفعلي لوقفِ هذه المجازرِ، وعدم الاكتفاء ببيانات التَّعبير عن القلق. وفي خطوةٍ تُكمل مشهد العدوان، أعلن الكيان الصُّهيوني الإرهابي عن خطَّته المُسمَّاة (المدينة الإنسانيَّة)، وهي تسمية تضليليَّة لواقعٍ جديد، يتمثل في محاصَرة مئات آلاف الفلسطينيِّين في بقعة مغلقة جنوب القِطاع، حيثُ يُسوِّق المُخطَّط كمشروع إغاثي، وما هو إلَّا محاولة واضحة لإعادة صياغة الواقع الديموجرافي عَبْرَ التَّهجير القسري والتَّجميع السكَّاني الإجباري، وتفريغ المُدُن الأصليَّة من سكَّانها. فالمدينة المزعومة لا تمتُّ للإنسانيَّة بِصِلَة، وتُمثِّل ترجمةً جديدةً لمشروعٍ طويل الأمد لإعادة احتلال القِطاع وتفكيكه، ورُبَّما تمهيدًا لزرع مستوطنات مستقبليَّة على أنقاضه، فما يجري يُعِيد إلى الذَّاكرة أشدَّ لحظات القرن العشرين ظلمةً، حين كانتِ التَّرحيلات الجماعيَّة والتَّجويع وسيلة هندسة سياسيَّة وعِرقيَّة. ورغم ذلك يقف المُجتمع الدّولي عاجزًا، وعَلَيْه أنْ يختارَ فإمَّا أنْ يتحركَ لِيوقفَ عجَلة التَّطهير الجارية بحقِّ شَعبٍ بأكمله، أو يُسجِّلَ عجْزَه التَّاريخي في وَجْه جريمةٍ مكتملة الأركان، فالمطلوب هو وقفٌ فَوري لإطلاق النَّار، ودفعٌ حقيقي نَحْوَ حلٍّ سياسي عادل، وإنهاء حقبة الإفلات من العقاب؛ لأنَّ الصَّمت ـ في مِثل هذا السِّياق ـ تواطؤ.