واقع الفضاء الرَّقمي في نسخته العربيَّة بعد تداعيات طوفان الأقصى والعدوان «الإسرائيلي» على غزَّة واليمن ولبنان وإيران، وما أفصحت عَنْه مواقف الشُّعوب العربيَّة من الأحداث الَّتي تمرُّ بها الأُمَّة ينبئ عن هشاشة فكريَّة مريبة تعكس غياب وجود المشروع الحضاري العربي في بناء الإنسان الواعي العالَمي أخلاقيًّا وتعليميًّا، القادر على العيش في الفضاء الرَّقمي والتَّعايش مع الآخر المختلف والمشترك، مواقف فضحتْ حجم التَّآمر على استقرار هذه المنطقة من المحيط إلى الخليج لِتعصفَ بها رياح الفتنة وتتَّجه بها المؤامرات إلى حالة من التَّراجع الفكري الَّذي يُعِيدها للوراء أكثر من (1470) عامًا، وما حملته هذه الأحداث من سُوء استغلال الفضاءات الرَّقمي لِتصبحَ هذه المنصَّات حربًا بالوكالة أسهمَتْ في استحمار فكر الشُّعوب وإرهاق مسامعها بقضايا وأحداث ومساحات من العراك والتَّنابز والسّباب والشَّتم واللَّعن والقذف والتَّآمر وشخصنة الأحداث حتَّى استخدمتْ معول هدم للتَّنمية، وأسرع الطُّرق وأيسرها في تخريب الأوطان، وحشد معركة الاستنزاف الداخلي بَيْنَ أبناء الأُمَّة نظرًا لحجم الانحرافات الَّتي التصقت بمحتواها، والتوجُّهات الفكريَّة والأيديولوجيَّات الشخصيَّة والمذهبيَّات العدوانيَّة والسِّياسات العدائيَّة الَّتي وجدت فيها بيئة سهلة لنموِّها واتِّساع انتشارها، وهي تغرِّد خارج سرب الفضيلة، وتتَّجه بشعوب المنطقة الَّذين تجمعهم روابط الدِّين والتَّاريخ والمصير لتنصهرَ جميعها في بوتقة الغوغائيَّة والاندفاع والضَّعف والوهن وتكريس لُغة الكراهية وثقافة الفردانيَّة وسُلطويَّة الرَّأي وفرض لُغة الأمْر الواقع على الآخر المختلف، ضاربة بها عرض الحائط، وينشط دعاة المذهبيَّة والمناطقيَّة والفوضويَّة في التَّغرير بشباب الأُمَّة والزجّ بهم في مستنقع المذهبيَّة والخلافات الطائفيَّة وتأجيج لُغة الكراهية، مستغلَّة عواطف النَّاس مجيِّشة فكر الشَّباب واستخدامهم كدروع بشريَّة للنَّفاذ عَبْرَ هذه المنصَّات.
على أنَّ ما تعكسه تصرفات مستخدمي المنصَّات الاجتماعيَّة ودخول الحسابات الوهميَّة والتَّجييش الإلكتروني والمحرِّضين والغوغائيِّين والسلبيِّين والنَّاقِمِين على الحياة ودعاة الإباحيَّة والحريَّات المشؤومة والأيديولوجيَّات من خروج عن المسار، وانحراف في البوصلة، واندفاع في السُّلوك، واختزال لمنابع القِيَم، لتتَّجه بالمنطقة العربيَّة إلى مرحلة تتوقف فيها كُلُّ الحلول، وتغلق فيها كُلُّ البدائل، حتَّى أصبحتْ حربًا مسلَّطة على كُلِّ القِيَم الإنسانيَّة والأخلاق العالية والمبادئ السَّامية، وإشهار السَّيف على الفضيلة، فأفقدت حالة التراشق الفكري ولُغة الفوقيَّة الكلاميَّة، والتنمُّر على القِيَم ومحاولة إسقاطها من قواميس الشُّعوب، مساحة الأمان وقواعد العمل والالتزام، وتحويلها إلى فسحة للنزال والنزاع والصراع والعراك والسَّب والشَّتم، حتَّى خرج محتوى المنصَّات عن مألوف الطِّباع، واتسعتْ ظاهرة التنمُّر السِّياسي والتعصُّب الفكري ومصادرة الرَّأي الآخر، وما أوجدته من تكريس لُغة الأنانيَّة والاختلاف في الرأي، وسُلطويَّة التَّفكير وعقم الأساليب، واستخدامها وسيلة للتشفِّي من الآخر أو إلحاق الضَّرر به لتثبتَ للعالَم أنَّها امتداد للهيمنة الفكريَّة وتهديد للهُوِيَّات والخصوصيًّات وانصهار للشخصيَّة، فاتسعتْ بذلك دائرة العشوائيَّة والهرج والمرج، وضاعتْ عفويَّة الكلمة ومصداقيَّتها، وقِيَمتها وأدخلها الإشاعات وحُب الظُّهور والظَّواهر الصوتيَّة الَّتي لَطالما لا تستطيع المواجهة وتنسحب من النِّقاش لتغرِّدَ من وراء حجاب بأسماء وهميَّة وحسابات يديرها أشخاص مدفوع لهم لتتَّجهَ إلى الهجوم على الآراء المخالفة والأفكار عَبْرَ الطَّعن في أخلاق الآخر وتعمد توجيه الروَّاد إلى إثارة الرَّأي العام بِدُونِ إمعان النَّظر لقِيمة الكلمة أو هُوِيَّة المعلومة أو مصداقيَّة العبارة أو وزن المضمون، لتتعدَّى ذلك إلى سلوكيَّات خارجة عن إطار الذَّوق والأدب والمشاعر العامَّة وتبتعد كُليًّا عن أوصاف الحكمة والمروءة والأخلاق.
من هنا باتَ البحث في إيجاد ميثاق أخلاقي عربي للمنصَّات الرَّقميَّة ضرورة إنسانيَّة وأخلاقيَّة، لضمان المحافظة على القِيَم الدينيَّة والمشتركات الإنسانيَّة الَّتي تجمع بَيْنَ أبناء الأُمَّة ورافقتها في عقودها المنصرمة قبل ظهور التقنيَّات والمنصَّات وإعادتها إلى حظيرة الاعتراف والتأسيس لها لنيل الاستحقاق، بما يؤسِّسه ذلك اليوم من الحاجة إلى سياسات عربيَّة واضحة وتشريعات مقننة واستراتيجيَّات توافقيَّة تعمل على إعادة إنتاج القِيَم الإنسانيَّة العالَميَّة المشتركة وتعظيم حضورها وتقوية برامجها والتَّوَسُّع في النَّماذج المعَبِّرَة عَنْها والضَّامنة لتحققِها في إطار من الحقِّ والعدل والمساواة، ووضعها كمعيار أساس في الخطابات السِّياسيَّة والاتفاقيَّات والمعاهدات والعلاقات الدوليَّة، وهي معطيات تضع الشُّعوب العربيَّة والإسلاميَّة عامَّة أمام مسؤوليَّة أخلاقيَّة وإنسانيَّة في التَّعامل معها بعُمق، والاحتكام إِلَيْها بوعي، لِيفهمَ خلالها موقعه، ويعي دَوْره، ويغتنم فرصة التطوُّر الَّذي يشهده العالَم اقتصاديًّا واجتماعيًّا فطريًّا وعلميًّا، في توجيه بوصلة هذه المنصَّات نَحْوَ الإعلاء من نواميس القِيَم وموجِّهاتها الرَّشيدة الضَّابطة للممارسات والمقنّنة للأدوات، والدَّاعمة لفرصِ التَّمكين للإنسان العربي في ظلِّ حياة آمنة مطمئنة تحتضنها القِيَم وتديرها الأخلاق وتبنيها المبادئ الرَّاقيَّة، في مواجهة حالات التَّرويع والإرهاب وغلبة المصالح، عَبْرَ الاهتمام بالقِيَم، منطلقًا لمبادئه وسياساته ومنظومة عمله وطريقة تعامله مع الأحداث الدوليَّة والنزاعات الإقليميَّة، وفي صياغة منظومة القرارات الدوليَّة، ومبادئ السِّلم والتَّعاون الدولي، لتصبحَ محور عمل أجندته الإعلاميَّة والتعليميَّة والسِّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتقنيَّة.
على أنَّ ما يثيره بعض أبناء هذه الأُمَّة عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة من دعوات إلى التَّصعيد، إنَّما هي دعوة مشحونة بالكراهية، مفتقدة للحكمة بعيدة عن الصَّواب، تائهة في الأرض، مستهلكة مسيّسة لإرضاء أعداء الأُمَّة وأعداء المنطقة الَّذين يريدُونَ لها أن تعيشَ في حالة قلق مستمر لا تنعم بمواردها ولا تستفيد من مقدراتها، فأيُّ صوت حكمة هذا الَّذي يمجِّد حربًا بغيضة، ويدعو إلى حرب المسلم وقتله، ويخذل أخاه المسلم ويتآمر مع عدوِّه عَلَيْه. إنَّنا مع كُلِّ ذلك نجد في الآراء والدَّعوات الأخرى القائمة على إنهاض صوت الحكمة وبناء فرص للحلِّ وتجنيب المنطقة أيَّ فرصة لإيقادها أو إشعال فتيلها.. كم كنتُ أرجو من كُلِّ المغرِّدين عَبْرَ منصَّات التَّواصُل الاجتماعي أن تجتمعَ كلمتهم على حقن الدِّماء وتعظيم الثِّقة ومَقت الفتنة ومراجعة الحسابات وإعادة المياه إلى مجاريها، لنتفقَ على مبدأ واحد وهو أنَّ حلَّ قضايا الأُمَّة يَجِبُ أن يكُونَ من أبناء الأُمَّة العقلاء والحكماء، وأنَّ حالة الاندفاع وشهوة الحرب وهيجان السِّياسة وما تعيشه من سقوط أخلاقي، وما يُقدِّمه الإعلام غير الأخلاقي من أكاذيب وإشاعات، لن يقدِّمَ لهذه الأُمَّة سوى الدَّمار. لذلك كان سدُّ هذه الثَّغرة وقطع أوصال الفتنة بتكاتف أبناء هذه الأُمَّة وتضامنهم نَحْوَ بناء ميثاق أخلاقي عربي يحافظ على المشتركات ويحميها لمزيدٍ من الحميميَّة والأخوَّة ووصْلِ الرَّحم وحُسن الجوار.
عَلَيْه، فإنَّ تأكيدنا على أهميَّة هذا الميثاق الأخلاقي للفضاء الرَّقمي العربي أمْر لا يقبل التَّأخير، وهو كإطار مرجعي يستهدف تعظيم دَوْر المشتركات؛ باعتبارها موجِّهات رئيسة لتعزيز الثِّقة وتنقية الأجواء وترقية الشُّعور الجمعي نَحْوَ الآخر، فتتَّجه الآراء المقدَّمة عَبْرَ منصَّة (X) والإنستجرام والفيس بوك وغيرها نَحْوَ التَّوازن الفكري والاعتدال المعرفي والردود المعزّزة للبدائل والمقدّمة للحلول يستهدف مناقشة الفكرة المطروحة والرأي المعلن، وليس الأشخاص، ويقدّم صورة نموذجيَّة لحوار مستدام ينطلق من رحم الخلاف ويتعايش مع التنوُّع الثَّقافي والتَّعايش الفكري، ويصنع من الاختلاف روح التَّكامل، فيوجّه سُلوك الأفراد والمؤسَّسات في العالَم الرَّقمي، مستندًا إلى قِيَم الإسلام العظيمة ومبادئ حُسن الجوار وعدم التدخُّل في الشُّؤون الداخليَّة للغير، وكفّ الأذى عن الآخر بالقول والفعل وترقية الكلمة الطيِّب، في ظلِّ احترام الخصوصيَّة، وتعزيز الصِّدق والنَّزاهة، ونبذ الكراهية والعنف، وحماية المقدَّسات وعدم المساس بالشَّعائر الدينيَّة، ودعم حُريَّة التَّعبير المسؤولة، واستنطاق القِيَم والمبادئ الأخلاقيَّة، واحترام التنوُّع الثَّقافي، بحيثُ يشارك في صياغة هذا الميثاق وتفعيله عدد من الجهات ذات الصِّلة في المنظومة العربيَّة، مِنْها جامعة الدول العربيَّة والمكاتب التَّابعة لها، والأمانة العامَّة لمجلس التَّعاون لدول الخليج العربيَّة، والبرلمان العربي، إضافة إلى المؤسَّسات البرلمانيَّة والتشريعيَّة والقانونيَّة، إلى جانب المؤسَّسات التقنيَّة والتعليميَّة ومؤسَّسات المُجتمع الأهلي، وفْقَ مسار ترويجي وتسويقي من خلال إطلاق حملات توعية رقميَّة، وتطوير لوائح تنظيميَّة وأُطر قانونيَّة تَضْمن الالتزام بالميثاق، وإنشاء أجهزة رقابيَّة مستقلَّة تعالج الانحرافات الحاصلة عَبْرَ هذا الفضاء الرَّقمي، بما يعكس التزامًا عربيًّا بتصحيح السُّلوك العربي غير الحضاري في المنصَّات الاجتماعيَّة.
د.رجب بن علي العويسي