في زماننا هذا يغوص الشَّباب بَيْنَ صفحات الشَّبكة العنكبوتيَّة الَّتي أصبحتْ تقرِّب بَيْنَ البَشَر في جميع أنحاء العالَم وتشعرهم بأنَّهم يعيشون في قرية كونيَّة صغيرة ممَّا أدَّى إلى أن تتداخلَ الهُوِيَّات والأفكار والقِيَم، خصوصًا مع تبادل الخبرات والتَّجارب بَيْنَهم.. ففي الوقت الَّذي يحمل فيه هذا التَّواصُل المتقدِّم بَيْنَ البَشَر الكثير من العناصر الحياتيَّة المشتركة والتَّعاون البناء في بعض الأحيان، إلَّا أنَّه قد يغيِّر من مفاهيم وقِيَم الشَّباب، لا سِيَّما صغار السِّن ويوجِّههم حيثُ يريد مِثلما تسعى جهود العولمة لأن تصهرَهم في قالب واحد متشابه.
لا شك أنَّ الفراغ الَّذي يشعر به الطلَّاب خلال الإجازة الصيفيَّة وارتيادهم للمواقع الإلكترونيَّة جعلهم يدمنون اقتحام عالَم الإنترنت، وأبعدهم بالتَّدريج عن مُجتمعهم المحيط بهم، والانعزال في عالَم افتراضي أفقدَهم الكثير من التَّفاعل العاطفي والمهارات الاجتماعيَّة الَّتي تجعلهم ينخرطون وسط بيئتهم ويعملون على تنميتها وتطويرها.
من هنا ظهرت الحاجة المتزايدة إلى ترسيخ القِيَم الوطنيَّة والانضباط السُّلوكي والوعي بالمسؤوليَّة بَيْنَ فئة الشَّباب.. فحرصتِ الحكومات على إعداد جيل يتحلى بالالتزام والانضباط وحُب الوطن، والقدرة على مواجهة التَّحدِّيات بروح الفريق والعمل المنظَّم عن طريق إطلاق برنامج «الانضباط العسكري لطلبة المدارس» والَّذي يُعَدُّ مبادرة رائدة تهدف إلى توفير بيئة منظّمة تحتوي على تدريبات عسكريَّة مبسطة تتناسب مع أعمارهم وتركِّز على تنمية المهارات البدنيَّة، وتعزيز الانضباط الذَّاتي والالتزام بالقوانين والتَّعليمات لدى هؤلاء البراعم.
وقد دشَّن صاحب السُّمو السَّيد ذي يزن بن هيثم وزير الثَّقافة والرِّياضة والشَّباب النُّسخة الثَّانية من برنامج «الانضباط العسكري لطلبة المدارس» لهذا العام والَّذي يُنفَّذ بمحافظة ظفار بإشراف وزارة الثَّقافة والرِّياضة والشَّباب ودعم عددٍ من الجهات العسكريَّة والأمنيَّة والمؤسَّسات الحكوميَّة الأخرى ذات العلاقة.. وذلك لـ(850) طالبًا من مختلف محافظات سلطنة عُمان من أجْلِ ترسيخ روح المواطنة والانتماء الوطني لدَيْهم وتعزيز الانضباط والنِّظام في سُلوكهم داخل وخارج المدرسة.. مع تنمية قدراتهم البدنيَّة والذهنيَّة من خلال التَّمارين الرياضيَّة والتَّدريبات الميدانيَّة.. إلى جانب غرسِ مفاهيم الالتزام والمسؤوليَّة والعمل الجماعي لدَيْهم وتهيئتهم للتَّعامل مع المواقف المختلفة بثقة وشجاعة.
إنَّ برنامج «الانضباط العسكري لطلبة المدارس» يُشكِّل نموذجًا فعَّالًا في ترسيخ قِيَم الانضباط والالتزام والمسؤوليَّة في نفوس الطَّلبة من خلال الدَّمج بَيْنَ الأساليب التربويَّة والممارسات العسكريَّة المبسطة.. حيثُ يوجِّه المشرفون على البرنامج الطلَّاب للقيام بعمل تدريبات على مهارات المشي العسكري والوقوف والانتباه.. كما يحرصون على إلقاء المحاضرات التوعويَّة عن الانضباط والقيادة والمواطنة، إلى جانب ممارسة الأنشطة الرياضيَّة الموجَّهة لبناء اللياقة البدنيَّة والتحمُّل والأنشطة التطوعيَّة والخدميَّة الَّتي تُعزِّز الإحساس بالمسؤوليَّة تجاه المُجتمع والولاء وتنمية روح الجماعة وغير ذلك ممَّا له أثَر إيجابي عظيم في نفوس أبنائنا الطلَّاب.. بدليل نجاح النُّسخة الأولى من البرنامج حيثُ لاحظ المسؤولون حرص الطلَّاب الَّذين شاركوا فيها على الحضور واحترامهم الزائد لمُعلِّميهم وأقرانهم، وارتفاع معدَّل الثِّقة بالنَّفْس لدَيْهم وتراجع السُّلوكيَّات السلبيَّة بَيْنَهم.
إنَّ برنامج «الانضباط العسكري لطلبة المدارس» يُعَدُّ خطوة ووسيلة مبتكرة لتحقيق مستهدفات الرُّؤية المستقبليَّة الطَّموحة «رؤية عُمان 2040» من خلال تعزيز دَوْر هؤلاء النَّاشئة الفاعل في بناء الوطن واعتبارهم شركاء في تحقيق التَّنمية.. فالانضباط ليس كما يعتقد البعض قيود تُفرض على صاحبها وتحرمه من ملذَّات الحياة، بل على العكس، لأنَّ غرس الشعور بالمسؤوليَّة لدى الطلاب سينظِّم حياتهم بصورة أفضل وبما يرتقي بمصلحتهم، إلى جانب أنَّه سيُعزِّز لدَيْهم الإحساس بالانتماء والرَّغبة الحقيقيَّة في النُّهوض بالوطن والوصول لمستقبل مُشرق ناجح مهما كانتِ التَّحدِّيات والعقبات الَّتي تقف في طريقهم.
لا شك أنَّنا بحاجة لترسيخ مفهوم الانضباط بَيْنَ الأجيال الحديثة.. ونتمنى أن ينفَّذَ هذا البرنامج المهمُّ أيضًا بَيْنَ طلاب الجامعات فهذا سيُعزِّز مفهوم الرجولة لدَيْهم ويوجه سُلوكيَّاتهم نَحْوَ الالتزام بالتَّعليمات والصَّبر، وإدراك أهميَّة الوقت والنِّظام والتَّعاون في حياتهم، وتنمية روح القيادة والعمل الجماعي، إلى جانب غرس قِيَم المواطنة الصَّالحة.. وهذا بالتَّأكيد سينعكس على حياتهم القادمة ثقةً وتركيزًا ونظامًا واعتمادًا على النَّفْس.
إنَّ برنامج «الانضباط العسكري لطلبة المدارس» ليس مجرَّد تدريب على المهارات البدنيَّة ولا يهدف إلى عسكرة التَّعليم.. بل هو مشروع تربوي متكامل يهدف إلى بناء شخصيَّة متوازنة قادرة على الإسهام الفاعل في المُجتمع.. فمن خلال هذا البرنامج تستطيع المؤسَّسات التربويَّة والأمنيَّة أن تُسهمَ في تخريج جيل وطني منضبط يَقُود المستقبل بثقة واقتدار.
ناصر بن سالم اليحمدي
كاتب عماني