الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة مصطلح بسيط في القراءة ولكنَّه عميق وثري في معناه، فهو إمَّا أن يحققَ رفاهيَّة للشُّعوب واستقلاليَّة في السِّيادة الوطنيَّة وعدم الاعتماد على الغير، وإمَّا أن يعيشَ ذلك البلد في نفقٍ مُظلم من التخلُّف والاتكاليَّة، بالإضافة إلى بعثرة الموارد الاقتصاديَّة واستهلاك ميزانيَّة البلد وضياع الخطط الاقتصاديَّة الاستراتيجيَّة؛ بسبب عدم كفاءة القائمين عَلَيْها، سواء من السَّاسة أو رجال الأعمال أو المستشارِين أو من مسؤول ويشرف على ملف الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة.
يحمل راية الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة في بلدنا سلطنة عُمان الغالية بكُلِّ اقتدار جلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ منذُ تسلُّم جلالته مقاليد الحُكم عام 2020م، حيثُ الزِّيارات الرَّسميَّة (زيارة دَولة) للدوَل الشَّقيقة في مجلس التَّعاون الخليجي، ثمَّ الانفتاح شرقًا وغربًا لغرض تعزيز الاقتصاد العُماني الَّذي كان يعاني من عجز مالي يقدَّر بـ(21) مليار ريال عُماني ـ آنذاك ـ وبدأ وتيرة الانتعاش الاقتصادي والمالي بعد زيارات إلى الهند وسنغافورة وبريطانيا وبلجيكا وهولندا وروسيا.
إنَّ هذه الزِّيارات جاءتْ ضِمن مركزيَّة القرار من جلالته بعد توافر جميع أدوات الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة بَيْنَ سلطنة عُمان وهذه البلدان، بالإضافة إلى وجود ملفَّات أخرى تحت اليد للغرض نَفْسه. تُعرَّف الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة بأنَّها جزء لا يتجزأ من فروع الدبلوماسيَّة المتعارف عَلَيْه لتعزيزِ ودعم الاقتصاد الوطني للحكومة والمواطنين.. وبمعنى أدق، لكُلِّ مَرافق الدَّولة. فمُسمَّى (الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة) أصبح عِلمًا وفنًّا عميقًا، ومَن يبحر فيه بحِرفيَّة وخبرة وكفاءة فإنَّه سوف يحصد الثِّمار والنَّتائج المرجوَّة. وتُعَدُّ الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة الآن هي أداة الدَّولة في السِّياسة الخارجيَّة لتحقيقِ روابط وعلاقات متَّزنة مع دول العالَم. وقد ركَّزتِ المدارس الدبلوماسيَّة المُتخصِّصة في بريطانيا بوضع الأُسُس النموذجيَّة لها وتقسيمها إلى عدَّة محاور استنادًا إلى مُقوِّمات البلد. فعلى سبيل المثال، فإنَّ اسكتلندا تشتهر بالقلاع والقصور التَّاريخيَّة، وكذلك إنجلترا ممَّا حدا بهم بتشكيل فريق متخصِّص من الدبلوماسيِّين والشَّركات المُتخصِّصة والرَّصينة للتَّرويج والدِّعاية والتَّسويق لكُلِّ بقاع العالَم، وقد حصدوا ثمار ذلك من إيرادات ماليَّة تقدَّر بحدود (162) جنيه استرليني للسِّياحة التَّاريخيَّة فقط؛ لذلك أضافوا فقرة (مُقوِّمات البلد) وما هو متوافر فيها لِيكُونَ حافزًا للاستثمار الأجنبي بدلًا من كونه مدفونًا تحت التُّراب.
وتُعَدُّ دَولة قطر الشَّقيقة البلد الحديث في تنفيذ مركزيَّة القرار بالدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة وتحوُّل السُّوق المحلِّي من مستهلِك إلى منتِج ثمَّ مصدِّر، وهذا يُحسب بحروف من ذهب لحِرفيَّة ودهاء مركزيَّة القرار بتنفيذ مفردات وأجندة وسِمات الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة بوقتٍ محسوب وقصير، حسب القياسات العالَميَّة لتحوّل البلد من مستهلِك إلى مصدِّر ولو بشكلٍ تدريجي ابتداء من سدِّ احتياجات المواطن، حيثُ نشاهد في جميع مراكز (مولات) وأسواق الدّوحة عبارة (منتج قطري) وهو ما يفرح ويثلج القلب. وتأتي هذه الاستراتيجيَّة التَّحويليَّة لِتثبتَ لنَا كدبلوماسيِّين وكذلك كسياسيِّين بأنَّ البلد لا يَقُوم ولا يُقاس على عدد السكَّان أو الفائض المالي، وإنَّما ينبني على مركزيَّة القرار الاستراتيجي الاقتصادي؛ لأنَّ هناك كثيرًا من البلدان الغنيَّة تتصدر احتياطات كبيرة بالموارد النفطيَّة والموارد الأخرى، ولا تزال تستورد أبسط الأشياء مستنزفة الاحتياطي السِّيادي للبلد، بالإضافة إلى أنَّها تؤثِّر على الدَّخل القومي للمواطن وقد يصل بها الحال إلى تغيير خططها التكتيكيَّة والاستراتيجيَّة استنادًا إلى ميزان الإيرادات والصَّادرات والسَّبب الرَّئيس في ذلك عدم اتِّخاذ قرار مركزي بالانتقال إلى الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة النموذجيَّة وتنفيذها بجميع مراحلها الأكاديميَّة والفنيَّة، كما فعلتْ دَولة قطر الشَّقيقة الَّتي استحدثتْ فريقًا من المختصِّين الخبراء (الاقتصاديِّين، الدبلوماسيِّين، الصناعيِّين) وذات الاختصاص لأنَّه ليس من المعقول الانفتاح مع دول وليس هناك معها علاقات دبلوماسيَّة وثيقة. فكانتْ وجهة النَّظر الدبلوماسيَّة قائمة بكُلِّ قوَّة في تطبيق مفردات الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة في الدّوحة ليس فقط المنتجات الاستهلاكيَّة، وإنَّما ذهبتْ إلى أكثر من ذلك بدخولها السُّوق العالَميَّة باستثمار في العديد مع الشَّركات والعلامات الدوليَّة لتحقيقِ أفضل النَّتائج ودعم وتنويع ميزانيَّة البلد، وهذا ما حصل فعلًا، كما أنَّنا لا ننسى بعض الدول العربيَّة الشَّقيقة الَّتي بدأتْ تبحر في بحر الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة بوقتٍ ليس بالقصير وبدأتْ منتجاتها تصل إلى كثير من بقاع العالَم. إنَّ تاريخ الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة بدأ يتبلور في القرن التاسع عشر، وتعلَّمتْ فيه كثيرًا المدارس الدبلوماسيَّة البريطانيَّة، حيثُ أكَّدتْ أنَّ نجاحها وتفوُّقها يأتي من مركزيَّة القرار، ثمَّ فريق العمل الَّذي يُشرف ويُنفِّذ ما تمَّ البَدْءُ فيه، حيثُ نلاحظ زيارات جلالة السُّلطان المُعظَّم إلى بعض الدول لِكَيْ يَقُومَ كثير من الجهات بتنفيذ وتطوير مفردات هذه الزِّيارة ـ وعلى سبيل المثال ـ زيارة وفد غرفة تجارة وصناعة عُمان للمملكة العربيَّة السعوديَّة الشَّقيقة، وبريطانيا.. وغيرهما من الدول لِتُعزِّز وتطوِّر مجالات الاقتصاد بَيْنَ سلطنة عُمان وتلك البُلدان.
د. سعدون بن حسين الحمداني
دبلوماسي سابق والرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت