في عصرٍ تتسارع فيه الابتكارات الصناعيَّة وتروج فيه الراحة كقِيمة عُليا، نجد أنَّ البلاستيك تسلل إلى حياتنا اليوميَّة بهدوء مخادع، حتَّى أصبح جزءًا لا يتجزأ من أسلوبنا في العيش. بل لم يَعُدْ مجرَّد مادَّة لتغليف المنتجات أو تصنيع الأدوات المنزليَّة، بل تحوَّل إلى بنية خفيَّة في طعامنا، وشرابنا، وهوائنا، وحتَّى في أجسادنا. ولعلَّنا جميعًا ندرك الآن بأنَّ البلاستيك يمثِّل قضيَّة بيئيَّة شائكة، لكن ما لم أكُنْ أتوقعه هو أنَّه رُبَّما ـ إن صحَّ لي القول ـ يسكن في دمائنا، كما لو أنَّه بات عنصرًا من عناصر تركيبتنا البيولوجيَّة!
والحقيقة هنا، إنَّ عددًا من الباحثين تقدموا لفحص أجسادهم عن طريق تحاليل متقدمة لقياس المركَّبات الكيميائيَّة المرتبطة بالبلاستيك في دمائهم، وللأسف جاءتِ النَّتائج لِتؤكدَ وجود نِسَب من مركَّبات تُعرف علميًّا باِسْمِ المواد الكيميائيَّة الأبديَّة؛ نظرًا لأنَّها لا تتحلل طبيعيًّا، بل تبقى داخل الجسم والبيئة لعقود. هذه المواد تُستخدم في تصنيع منتجات لا تحصى، كأدوات الطهي، والأقمشة المقاوِمة للماء، بل وعبوات الأطعمة الجاهزة. ولعلَّ ما يُقلق مؤخرًا هو صُدور نتائج من البرنامج الوطني الأميركي للتسمم، لِتؤكدَ أنَّ هذه المركَّبات ترتبط بارتفاع خطر الإصابة بسرطان الكُلَى، وأورام الخصيَّة، واضطرابات في المناعة والغدَّة الدرقيَّة.
حتَّى أنَّه في عام 2022م، أُجريت فحوصات طبيَّة تخصصيَّة على اثنين وعشرين شخصًا بالغًا في أوروبا، تبَيَّنَ أنَّ سبعة عشر مِنْهم، أي بنسبة سبعة وسبعين بالمئة، لدَيْهم جزيئات ميكروبلاستيكيَّة في دمائهم. هذه الجزيئات، رغم صغر حجمها الَّذي ـ بلا شك ـ لا يرى بالعَيْنِ المجرَّدة، قادرة على اختراق الحواجز الخلويَّة والدخول إلى أعضاء الجسم الحيويَّة!
ومن هنا فهذا الكم من الأدلَّة يدفعنا للتساؤل: هل يكفي أن نغيِّر سُلوكنا الفردي؟ وهل بالإمكان أن نحميَ أنْفُسنا بأسلوب حياة صحِّي في ظلِّ عالم محاصر بالبلاستيك؟ رُبَّما عَلَيْنا أن نبدأ بتقليل استخدام العبوات البلاستيكيَّة، واستبدال أدوات الطبخ الزجاجيَّة بأخرى فولاذيَّة، والامتناع عن تسخين الطَّعام في الحاويات البلاستيكيَّة. وهنا قد يشعر الفرد ببعض الارتياح، لكنَّ الحقيقة أنَّ هذه الجهود الفرديَّة، رغم أهميَّتها، لا تمثِّل أكثر من قطرة في محيط مليء بالسموم الخفيَّة. فللأسف الهواء الَّذي نتنفسه يحمل أليافًا بلاستيكيَّة دقيقة متطايرة من الأقمشة، والطَّعام الَّذي نأكله معبَّأ في طبقات تحتوي على مركَّبات بتروليَّة!
ولكَيْ أكُونَ أمينًا في طرحي لهذا الموضوع، فالعبء لم يَعُدُ بيئيًّا فقط، بل أصبح صحيًّا واقتصاديًّا وحتَّى اجتماعيًّا. فالأُسر محدودة الدخل غالبًا ما تستهلك المنتجات الأرخص سعرًا ـ على سبيل المثال ـ، والَّتي عادة ما تكُونُ مغلَّفة أو مصنَّعة بمواد كيميائيَّة غير آمِنة، ممَّا يضعهم في دائرة التعرُّض اليومي الخطير. لذلك فإنَّ العدالة الصحيَّة تقتضي أن تكُونَ الحماية من البلاستيك حقًّا عامًّا، لا ترفًا مخصصًا لفئة محدَّدة، كما نراه في بعض الدول الأخرى!
لذلك فالحل لا يكمن فقط في قرارات المستهلك، بل في قرارات الجهات الحكوميَّة المعنيَّة، حيثُ يَجِبُ أن تتدخلَ السِّياسات العامَّة بقوَّة لتقنين المواد الكيميائيَّة ذات التأثير الصحِّي، وإلزام الشَّركات بالإفصاح عن المُكوِّنات، ودعم الابتكار في تصنيع بدائل آمِنة. ولكَيْ نكُونَ صادقين مع أنْفُسنا وللوطن ـ أيضًا ـ نحن بحاجة إلى دراسات طويلة المدى تربط بَيْنَ هذه المركَّبات ومعدَّلات الأمراض المزمنة، من السرطان إلى العقم إلى الاضطرابات العصبيَّة!
ثمَّ يَجِبُ إعادة النَّظر في كون البلاستيك مجرَّد مادَّة، بل كرمز لمُشْكلة أعمق، حيثُ إنَّه في العقود القادمة سيصبح جليًّا غياب التَّوازن بَيْنَ التقدُّم الصِّناعي والحكمة البيئيَّة. كيف لا؟ والبلاستيك قد يكُونُ فاز بجولة الصَّمت، حين غزا أجسادنا دُونَ مقاوَمة، لكنَّه لن يفوزَ بمعركة الوعي، إذا اجتمعنا على إرادة الاهتمام بصحَّتنا وصحَّة الأجيال القادمة. بطبيعة الحال، هذه ليسَتْ دعوة للخوف، بل للانتباه وللتغيير الصحِّي.
ختامًا، المعركة ليسَتْ ضدَّ البلاستيك وحده، بل ضدَّ كُلِّ ما يُقدَّم لنا بوصفه مريحًا وهو في حقيقته ملوَّث. وما أؤكد عَلَيْه هنا، أنَّنا لا نحارب مادَّة، بل نحارب عدم المبالاة. ومَن يدرك عمُق هذا الموضوع، يعرف أنَّ الكلمة الصَّادقة، والفعل المُجتمعي، والتشريع المناسب، هي وحدها طريق الأمان الصحِّي في هذا الزَّمن الملوَّث بالخفاء!
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي