الأربعاء 16 يوليو 2025 م - 20 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

حين يهتز العالم.. نسمع الصدى هنا

حين يهتز العالم.. نسمع الصدى هنا
الاثنين - 14 يوليو 2025 01:26 م

إبراهيم بدوي

10

منذُ أن ضربت جائحة كورونا العالم، وما سبقها من أزمات ماليَّة وحروب إقليميَّة، تبلورت داخلي قناعة أكيدة بأنَّ الأرقام الَّتي نراها على شاشات الأخبار، والتقارير الَّتي تتناول السِّياسة والنزاعات، ليسَتْ عناوين تخص بقعة بِعَيْنها. ففي هذا العالم الجديد، تحوَّل الاقتصاد الرأسمالي إلى شبكةٍ متصلة، أقرب ما تكُونُ إلى قرية صغيرة، خطوة واحدة في البيت الأبيض، قرار في بكين، اضطراب في البحر الأحمر، أو توتر على الحدود الشرقيَّة لأوروبا، كُلُّها عوامل كفيلة بأن تغيِّر سعر الرغيف في قرية بعيدة في إفريقيا أو ترفع فاتورة كهرباء أُسرة في القاهرة، وهنا لا أبالغ، لكنَّه للأسف واقع نعيشه يوميًّا! وما يزيد هذه القناعة رسوخًا أنَّني لم أعُدْ أشعر أنَّ ما يحدُث هناك بعيد عنِّي، فكُلُّ تلك التَّغييرات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة ستجد طريقها حتمًا إلى حياتي الشخصيَّة، قد تتأخر دفعة قسط، أو تختفي سلعة كنتُ أشتريها بلا تفكير، أو تتغير خططي في السفر، أو حتَّى تتأثر مائدة أطفالي ببساطة خياراتها، لذا قررتُ في هذا المقال أن أتحدث كمحلل يقرأ مستقبل الأسواق، بل كأبٍ يعيش في هذا العالم، يدرك أنَّ القرار الَّذي يُتخذ في واشنطن اليوم، قد يطرق بابه بعد أسابيع، ويُعيد ترتيب أولويَّات البيت.

أتابع الأرقام الصَّادمة لتنامي الفقر كمن يتصفح سِجلًّا لعالم نهشه الوجع، فأكثر من (700) مليون إنسان تحت خط الفقر المدقع، هذا الرَّقم لا أتعامل معه كمعلومة، بل كصورة لأشخاص مروا في حياتي اليوميَّة، صديقي العامل الَّذي أخفى مرضه حتَّى لا يخصم من راتبه، أُم فقدَتْ سلَّتها الغذائيَّة؛ لأنَّها لم تستطع التسجيل في الوقت المناسب، شاب جامعي توقَّف عن الدراسة ليعملَ في محطَّة وقود، فالفقر لم يَعُدْ حالة عابرة، بل صار جدارًا صلبًا يفصل النَّاس عن أحلامهم، والتضخُّم بات يعني ارتفاعًا للضغط على الأعصاب أكثر من الأسعار، وبه تتآكل المساحات الآمنة في تفاصيل الحياة، فحين تصبح كلفة الحليب عبئًا، يصبح كُلُّ شيء مخيفًا، وهنا لنظرة إنسانيَّة تنصُت أكثر ما نحتاج لنظريَّات اقتصاديَّة، فالقرارات التجاريَّة العالميَّة تُعيد رسم حدود الفقر، لكنَّنا في العالم العربي لا نملك رفاهيَّة الانتظار حتَّى تخرج تلك الخرائط الجديدة؛ لأنَّنا ببساطة كثير منَّا على الهامش، وسنسحق ما إن تبدأ العجلات بالدَّوران.

أنا ابن هذه الأرض، ومثلي كثيرون يرون كيف أنَّ القدرة الشرائيَّة بدأتْ تتآكل يومًا بعد يوم، أصبح الحديث عن التَّوفير أو الترشيد ضرورة بديهيَّة، ألاحظ ذلك في لهجة الباعة، في اختيارات الأُمَّهات داخل السوبرماركت، في همهمات النَّاس في الطوابير، لقدِ انخفضتِ القدرة على الشراء، وتراجعتِ الثِّقة في استقرار الأسعار، ومعها تقلَّصتْ قدرة أصحاب المشاريع الصَّغيرة على الاستمرار، فحين تقلُّ الطلبات، يتردد صاحب الورشة في شراء مواد جديدة، ويتراجع المصنع عن توظيف عمَّال جُدد، ويتوقف التاجر عن الاستيراد. وهكذا، تَدُور دوَّامة الانكماش الاقتصادي، بعيدًا عن بيانات البنوك في أرغفة الخبز الَّتي أصبحتْ أصغر، وفي أحلام التَّوسع الَّتي تمَّ تأجيلها (حتَّى إشعار آخر)، كُلُّ ذلك بسبب صراع بَيْنَ الكبار، ورغبة ترامب في السيطرة.. يا أعزاء إنِّي أرى النُّمو الاقتصادي يبدأ حين يشعر الإنسان أنَّ ما يملكه من مال يكفيه لِيعيشَ لا لِيصارعَ.

أمَّا منطقتنا فهي تُشبه بحَّارًا ماهرًا يقف على مركب صغير وسط عاصفة لا تهدأ، فدول الخليج تملك بعض الأدوات الَّتي تساعدها على الموازنة، لكن ذلك لا يُلغي شعورها الدَّائم بأنَّها جزء من محيط مضطرب، والقلق أكبر على الدول الَّتي لا تمتلك الموارد الكافية أو البنية المؤسسيَّة المرنة، كُلُّ أزمة في سلاسل الإمداد، كُلُّ عرقلة في المضائق البحريَّة، كُلُّ نزاع إقليمي، له ارتداد مباشر على سعر الوقود، والدقيق، والنقل، والدواء، وفي ظلِّ هذا الواقع، يَجِبُ أن تُعيد المنطقة التفكير في طريقة تعاملها مع هذه المنظومة العالميَّة المتشابكة، من غير المنطقي أن نظلَّ مجرَّد متلقِّين، ننتظر نتائج القمم والمنتديات الماليَّة، بَيْنَما نملك فرصة حقيقيَّة لتأسيس شبكات إقليميَّة للتكامل الغذائي واللوجستي، الفرص ليسَتْ معدومة، لكنَّها تحتاج إلى خيال سياسي أوسع، وإرادة تنمويَّة تستمع إلى النَّاس قَبل أن تشرح لهم الأرقام.

إبراهيم بدوي

[email protected]