يبدو أنَّ مسار الفوضى الأميركيَّة العبثيَّة الَّتي بدأتها الولايات المُتَّحدة في هذا الإقليم وأطلقتْ عَلَيْها اسم «الفوضى الخلَّاقة» لا تزال تتناسل حلقاتها؛ انطلاقًا من الفَهْم الصهيوـ أميركي بأنَّ الأهداف الحقيقيَّة من وراء نشر هذه الفوضى لم تؤتِ بعد أُكُلَها. لذلك لم تقفْ عِندَ حدود النَّار والدَّمار والخراب الَّتي وصلت إِلَيْها حتَّى الآن.
واقع الحال يؤكِّد أنَّ الصهيوـ أميركي ـ ومن ورائهما الخونة والعملاء ـ يعملون على تجريد هذا الإقليم من جميع مظاهر قوَّته واستقراره، لِيبقَى لقمةً سائغة في أفواه الاستعمار الصهيوـ أميركي الغربي، لذا يتواصل مسلسل تحطيم ما تبقَّى من القوى، سواء كانت متمثلة في قُطر عربي أو إسلامي، أو في حركات مقاوَمة.
وأمام هذا الواقع المُخزي، أصبح الصهيوـ أميركي ليس المندوب السَّامي لدول هذا الإقليم، وإنَّما الحاكم والآمر والنَّاهي، فأخذ يوزع أوامره هنا وهناك، وفْقًا لما تُمليه عَلَيْه سياسة الهيمنة والاستعمار والاستعباد، وقَبل ذلك الاستحمار، وعَلَيْه، لم يكُنْ مثيرًا للدَّهشة والاستغراب ما صرَّح به توم براك، المبعوث الأميركي الخاصُّ لسوريا، والسَّفير الأميركي لدَى تركيا، من أنَّ لبنان يواجه تهديدًا وجوديًّا في حال استمرَّتِ السُّلطات في تجاهل قضيَّة مخزونات «حزب الله» من الأسلحة، مشيرًا إلى أنَّ غياب التحرك قد يدفع لبنان إلى الوقوع تحت النفوذ الإقليمي. ولم يكتفِ براك في تصريحه عِندَ هذا الحدِّ وإنَّما واصلَ استفزازه للبنان شَعبًا وحكومةً وتدخُّله السَّافر في شأن سيادي لبناني محض، حين قال في مقابلة: «لديك «إسرائيل» على جانب، وإيران على الجانب الآخر، والآن سوريا تتغير بسرعة كبيرة. إذا لم يتحرك لبنان، فقد يصبح بلاد الشَّام مرَّة أخرى»، في إشارة إلى الاسم التَّاريخي للمنطقة الَّتي تشمل سوريا ولبنان. وأضاف: «يقول السوريون لبنان منتجعنا السَّاحلي. لذا عَلَيْنا أن نتحركَ. وأنا أدرك مدى إحباط اللبنانيِّين.. وهذا الأمْر يُحبطني أيضًا».
إنَّ مِثل هذه التَّصريحات المستفزَّة والتَّحريض والتَّحريش بَيْنَ اللبنانيِّين يُعَبِّر عن الأبعاد الاستعماريَّة الصهيوـ أميركيَّة في المنطقة السَّاعية إلى ترسيخ دعائم هذا الاستعمار في الإقليم، ونزع كُلِّ ما يراه هذا المستعمِر مهدِّدًا لبقاء استعماره. وعلى الجانب الآخر، ما كان لهذه النَّبرة الصهيوـ أميركيَّة أن تعلوَ لولا وجود مَن يدعمها في هذا الإقليم، وفي لبنان للأسف الشَّديد.
تعمل الولايات المُتَّحدة على مقايضة اللبنانيِّين بإصلاحات اقتصاديَّة شاملة مقابل نزع سلاح المقاومة الإسلاميَّة، حيثُ كشف براك أنَّ بلاده كانتْ قد قدَّمت، في يونيو الماضي، اقتراحًا رسميًّا للمسؤولين اللبنانيِّين، يتضمن خطَّة لنزع سلاح «حزب الله» وتنفيذ إصلاحات اقتصاديَّة شاملة، كشرط لتقديم مساعدات ماليَّة تهدف إلى إخراج لبنان من أزمته الاقتصاديَّة. في تجاهل واضح للوقائع الثابتة، وهي أنَّ السِّلاح ما فَرَضَ وجوده وتوفيره هو الاحتلال الصُّهيوني للأراضي اللبنانيَّة واستباحة العدوِّ الصُّهيوني لسيادة لبنان وأمنِ شَعبه واستقراره. وعَلَيْه، فإنَّ انتفاء وجود الاحتلال يقابله انتفاء وجود السِّلاح، فالمقاوَمة لم تولدْ إلَّا من رحم هذا الاحتلال. كما أنَّ مَنْ أوصلَ الشَّعب اللبناني إلى هذا الوضع الاقتصادي المزري هو الولايات المُتَّحدة وأتباعها، وبالتَّالي مقايضة الإصلاح الاقتصادي بنزع السِّلاح هي مقايضة ساقطة، وفيها ابتعاد عن الحلول السلميَّة والقانونيَّة، وتؤكِّد النيَّات الخبيثة المُبيَّتة ضدَّ لبنان وشَعبه ومقاوَمته، وأنَّ هناك أطماعًا صهيونيَّة في الأراضي اللبنانيَّة الخاضعة للاحتلال الصُّهيوني.
الردُّ الرَّسمي اللبناني على المقترح الأميركي اختصر الطَّريق على الولايات المُتَّحدة، ووفَّر لها المخرج القانوني الملائم لنزع مُسبِّبات التوتُّر وتجنيب لبنان ويلات المُخطَّط الصُّهيوـ أميركي، حيثُ قدَّمت الحكومة اللبنانيَّة وثيقة من سبع صفحات، دعتْ فيها إلى انسحاب كيان الاحتلال الصُّهيوني الكامل من الأراضي المتنازع عَلَيْها، بما في ذلك مزارع شبعا، وشدَّدتْ على ضرورة بسط سيطرة الدَّولة على جميع الأسلحة، مع التعهُّد بتفكيك سلاح «حزب الله» في جنوب البلاد، ضِمن إطار شامل يُعِيد التَّأكيد على سُلطة الدَّولة، ويحفظ سيادتها واستقلالها.
خميس بن حبيب التوبي