طالما فكرت بتأنٍّ في إمكانيَّة المدينة العربيَّة الخليجيَّة أن تحافظ على هُوِيَّتها، سويَّة مع توظيف الوفورات الماليَّة المهولة القادمة من البترول وفوائض تصديره. وقد لاحظت حماس أولي الأمر عَبْرَ دول الخليج ومسارعتهم (بلا تروٍّ) لإعلاء البنايات المصنوعة من الفولاذ والزجاج، على سبيل الاعتزاز والاستعراض غير المجدي، مع إشارة خاصَّة إلى أنَّ الصور، أي صور هذه المُدن الأشبه بالمُدن الأميركيَّة راحت تعَبِّر عمَّا أخذت هذه الحواضر تفقد هُوِيَّتها الأصل الَّتي يحملها (بل ويعتز بها) أبناء مُدننا الأصيلة عَبْرَ دول الخليج العربيَّة الزاهرة! ومع ذلك الإرباك، استعرضت ما قام به معماريون عراقيون، بل وحتَّى أوروبيون مأجورون، من جهد خاص لتذكير سكَّان هذه «الأوثان» العالية، الفولاذيَّة/الزجاجيَّة بأنَّهم أصلًا ينتمون إلى ثقافة تختلف كُليَّة عن ثقافة المعماريين الأوروبيين أو الكنديين أو الأميركان الَّذين ثابروا إلى على استزراع أبنيتهم على رمال الخليج العربي الساخنة مقابل أموال وأجور عالية، بديلًا عن الصخور والجليد الَّذي يعطي أراض البنايات المستوردة الأصل صلابتها وديمومتها .
حاول عدد من المعماريين المحلِّيين إضافة «تزويقات» إسلاميَّة أو عربيَّة، مستوحاة من التراثين الأموي والعباسي، على سبيل الخروج ببنايات هي خليط «منغَّل» من بَيْنِ طيَّات صفحات التراث والحداثة: وقد ظهرت هذه البنايات «نشازًا» صارخًا لا يخطئه كُلُّ مَن اعتادت مقلتاه على مشاهدة أزقة و»أحواش» منازلنا القديمة الَّتي كانت تستضيف العوائل العربيَّة المركَّبة، ابتداء من الجد والجدة، وانتهاءً بالأطفال، (أي بالأحفاد الصغار).
إنَّ التراث لا يعني استيراد ناطحات السحاب عَبْرَ القارات واستزراعها على رمالنا الساخنة، مع توظيف عشرات الآلاف من العمَّال والصنعة التايلنديين أو الصينيين! إنَّ التراث لا يُمكِن أن ينتمي إلى قبَّة مصطنعة وأقواس مقحمة في تصميم بناء هو من أصل أوروبي، وهو لا يُمكِن أن يختصر بمثل هذه الأقواس الجوفاء الَّتي تضاف إلى المداخل وإلى النوافذ كي تكتسب البناية هُوِيَّة قوميَّة. وهنا لا بُدَّ أن نلاحظ بأنَّه على المعماريين الخليجيين استنباط الأساليب والأشكال والتقنيَّات الَّتي تذكِّر ساكني ناطحات السّحاب المستزرعة في مُدننا بأنَّهم، أصلًا، سكَّان خيام بدويَّة مصنوعة من وبَر الجِمال، ولا عيب في ذلك، بل إنَّه من دواعي الاعتزاز بالنزر اليسير الَّذي تبقَّى ممَّا كان آباؤنا وأجدادنا يعتمدُونَ عَلَيْه من أجْلَ البقاء. وقد بقوا في الأجيال التَّالية: و»البقاء للأصلح»!
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي