من أهم أحداث الإسلام حصول المعراج، الذي عُرِجَ فيه بالنبيُّ الكريم (صلى الله عليه وسلم) إلى السموات العلا، حيث سدرةُ المنتهَى، وكان قريبًا من ربه، أو من سيدنا جبريل (عليه السلام)، فكان:(قاب قوسين أو أدنى)، فأوحى الله إلى عبده، ورسوله ما أوحى، أو أوحى سيدُنا جبريل إلى الرسول الكريم ما أوحاه الله إليه، فقام بنقله إلى شخصه الشريف، وقد أراه الله في المعراج الآياتِ الكبرى، والمرائي العظمى التي وقفتْهُ على كلِّ ما سيدور في حياته، وحياة أمَّته، وكلِّ ما في الرؤى من أحكام، وبيان عواقب الخلق: الصالح منهم والطالح، وعاقبة خطباء السوء، وبَيَّنَ له صورة الدنيا، وزينتها، وعاقبة مانعي الزكاة، وجزاء من يتكلمون بما لا يفعلون، وعاقبة المجاهدين في سبيل الله، وغيرها من المرائي الكثيرة، ومعانيها، ومقاصدها، ومراميها، وكلُّ تلك الرؤى مبثوثة في كتب السيرة، وشُرِحَتْ، واستنبط العلماءُ منها الكثير من القيمَ، والدقيق من العظاتِ، والعديد من الدروسَ العظيمةَ التي عرفتْنا كيف نسير في الحياة، وهي مرئيات يجب دراستُها، وشرحُها، وبيانُها، وتوضيحُها للناس كلما هلَّ شهر رجب، ذلك الشهر الحرام؛ حتى يفهم الناس طبيعة المعراج، وماهيته، وأهدافه، ومنها فرضية الصلاة التي هي معراجُ المؤمن إلى ربه، ووسيلته التي يحيا بها الحياة الراقية، ويسمو بها في درجات الرقي، وسلم الوصول إلى الله، وهنا نتناول تلك الآيات التي سَجَّلَتْ حادثة المعراج، وهي واردة في سورة النجم، التي جاء فيها:(.. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم 5 ـ 18). في هذه الآيات رَصْدٌ لأحداث، وقضية المعراج، وما كان فيها، ولقاء الرسول الكريم بسيدنا جبريل (عليه السلام) ورؤيته إياه مرتين، والمرائي التي رآها الرسول في رحلة المعراج، وبيان سيدنا جبريل معناها، والكشف عن فحواها للنبي (صلى الله عليه وسلم).
بدأت الآيات بوصف سيدنا جبريل بأنه (ذو مِرَّةٍ)، أيْ: منظر حسن، وهيئة جميلة للغاية، وأنه ذو بأس شديد، وهو شديد القوى، وأنه مستوي الخلقة، يسدُّ الأفقَ إذا ظهر على هيئته الحقيقية، له ستمائة جناح، وأنه التقاه عند سدرة المنتهى، تلك السدرة التي ينتهي إليها، وعندها علمُ كلِّ شيء، وعندها أخبار كلِّ شيء، فأوحى سيدُنا جبريل إلى الرسول ما أوحاه الله إليه، أو أن الله تعالى هو الذي أوحى بذاته العلية إلى عبده، ورسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) ما أوحى، فما زاغ منه البصر، وما طغى، ولا زاد على ما رآه، وقد أراه الله آياتِه الكبرى، تلك الآيات، أو المرائي العظيمة التي رآها (صلى الله عليه وسلم) في تلك الرحلة التي أنعم الله عليه بها، وكانت كاشفة له ما سيكون، وموضحة له كثيرا من الأمور.
وقد تقدم المفعول به وهو الضمير المتصل (الهاء) في قوله:(علّمه) على الفاعل:(شديد القوى) لبيان أهميته، وتأخير الفاعل أيضا لبيان قيمته بالحصر، والقصر، وقوله:(ذو مِرَّةٍ) كناية عن جمال الهيئة، وحسن المنظر، وبهاء الطلعة، وفي آية أخرى:(ذي قوةٍ عند ذي العرشِ مكين، مُطاعٍ ثَمَّ أمين)، وكلُّها كنايات عن تمام الخِلقة، وكمال الهيئة، وشدة البأس، ومكانته عند ربه، وأنه مُمَكَّنٌ من قِبَلِ اللهِ، أعطاه قدراتٍ كثيرةً، وكبيرةً.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية