الجمعة 11 يوليو 2025 م - 15 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

الجزائر .. أعظم قصة تحرير عرفها التاريخ

الجزائر .. أعظم قصة تحرير عرفها التاريخ
الأربعاء - 09 يوليو 2025 02:25 م

خميس بن عبيد القطيطي

60

الأيَّام التَّاريخيَّة في حياة الأُمم مُتعدِّدة وللأُمَّة العربيَّة هناك الكثير من الأمثلة المُشرِّفة في ذاكرة التَّاريخ، ففي الـ(٥) من يوليو من عام ١٩٦٢م أعلن استقلال الجزائر بعد أعظم قصَّة كفاح مُسلَّح عرفها التَّاريخ استمرَّتْ منذُ الأوَّل من نوفمبر ١٩٥٤م حتَّى نَيْل الاستقلال، استكمالًا للثَّورة الأُولى الَّتي بدأها المجاهد الكبير الأمير عبدالقادر الجزائري بالقرن التَّاسع عشر عام ١٨٦٢م، فقدَّمتِ الجزائر ملايين الشُّهداء في سبيل التَّحرُّر ونَيْل الاستقلال .

بداية نوجز للأجيال العربيَّة ما حدَث في تلك المرحلة الَّتي سبقَتْ استعمار الوطن العربي، فالدَّولة العثمانيَّة بسطتْ سيطرتها على المشرق العربي خلال أربعة قرون، ثمَّ بدأتْ تتراجع وتضعف لِتتساقطَ ولاياتها العربيَّة واحدة تلو الأخرى، بل إنَّ الدوَل الأوروبيَّة أجبرتها على توقيع عددٍ من الاتفاقيَّات قلَّصتْ حدودها الحاليَّة لِتبقَى في الأناضول، مع نهضة أوروبيَّة بوتيرة متسارعة وتمدُّد للأساطيل الأوروبيَّة في مختلف أنحاء العالَم، وفي مقدِّمتها الوطن العربي الَّذي كان يمثِّل الجوار التَّاريخي لأوروبا. وللأسف عاش حالة العزلة والانغلاق والقبضة الحديديَّة فرضها الولاة العثمانيون بأوامر من الباب العالي، ومنع التَّواصُل مع أوروبا الَّتي كانتْ تعيش مرحلة نهضة صناعيَّة استفادتْ من علوم ومعارف ممَّن سبَقَها من علماء العرب والمُسلِمِين، لذا فقد بقي المشرق العربي تحت هيمنة وقبضة الباب العالي، وعِندَما استقلَّ الوالي العثماني محمد علي باشا بمصر وأراد ضمَّ الشَّام والجزيرة العربيَّة اجتمعتِ الدوَل الأوروبيَّة للقضاء على هذه الدَّولة العربيَّة الصَّاعدة في مهدِها وبقيَتْ دَولته في مصر فقط ولاحقًا تمَّ احتلالها أيضًا .

أمَّا قصَّة احتلال الجزائر فيروى أنَّ الوالي الجزائري الداي حسين قام بصفع السَّفير الفرنسي عِندَما طالبَ الداي حسين فرنسا باسترداد ما عَلَيْها من ديون ضخمة، فجاء ردُّ السَّفير الفرنسي مستفزًّا، لذا سُوِّقَتْ هذه القصَّة على أنَّها سبب في حصار الجزائر لِتسقطَ العاصمة الجزائر عام ١٨٣٠م، والحقيقة الاستعماريَّة هي تقسيم ممتلكات الدَّولة العثمانيَّة الَّتي سُمِّيت «الرَّجُل المريض» أعقبها استعمار كامل الوطن العربي، حيثُ كان المشرق العربي يمثِّل الرَّابط الاستراتيجي بَيْنَ الشَّرق والغرب، ومن خلاله تتحرك الملاحة الدّوليَّة بَيْنَ أوروبا والهند والصِّين وأسواق آسيا، إضافةً إلى الثَّروات الطَّبيعيَّة والزِّراعيَّة والبَشَريَّة الَّتي تمتلكها هذه المنطقة الجغرافيَّة.

احتلال الجزائر حدَث في عام ١٨٣٠م، ثمَّ انطلقتْ ثورة كبرى على يد الأمير عبدالقادر الجزائري عام ١٨٣٢م، وقد كبَّد الاستعمار خسائر فادحة، بل استطاع استعادة مساحات كبيرة من غرب الجزائر، وسجَّل تاريخًا نضاليًّا عظيمًا في تاريخ الجزائر، إلَّا أنَّ الاحتلال الفرنسي وقَّع معه اتفاقيَّة لاحقًا وتمَّ خرقها، ثمَّ وقِّعتْ هدنة أخرى وتمَّ خرقها أيضًا؛ بهدف إجهاض تلك الثَّورة والسَّيطرة عَلَيْها، وصولًا إلى عام ١٨٤٧م عِندَما قامتْ قوَّات الاحتلال بتطبيق سياسة الأرض المحروقة والسَّيطرة على المنطقة الَّتي يوجد فيها رجال الثَّورة واعتقال قائدها الشَّيخ عبدالقادر الجزائري، فتمَّ سجنُه في فرنسا، وأُطلق سراحه ليستقرَّ في سوريا حتَّى وفاته في الـ(٢٦) من مايو ١٨٨٦م إلَّا أنَّ رفاته نُقل لاحقًا إلى مسقط رأسه الجزائر عام ١٩٦٥م .

بقيتِ الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي أطول فترة استعمار، فاستفادت فرنسا من ثروات الجزائر الزِّراعيَّة والطَّبيعيَّة والجغرافيَّة والبَشَريَّة، وأدخلتِ اللُّغة الفرنسيَّة لفرنسة الجزائر، كُلُّ هذه الحقائق مسجَّلة في التَّاريخ، وجنَّدتْ فرنسا أبناء الشَّعب الجزائري إجباريًّا فقاتَل أبناء الجزائر في مقدِّمة الجيوش الفرنسيَّة في الحرب العالَميَّة بعد وعود بمنح الاستقلال للجزائر بعد الحرب ولم تفِ بها، وفي الـ(٧) من مايو ١٩٤٥م أعلن الحلفاء الانتصار في الحرب العالَميَّة الثَّانية، وجاء الإعلان من قِبل الرَّئيس الأميركي ترومان ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل والرَّئيس الفرنسي شارل ديجول، وانطلقتِ المَسيرات والمظاهرات في الجزائر احتفاء بالانتصار رافعين راية التَّحرير والاستقلال بناء على وعود سابقة بمنح الاستقلال للجزائر نظرًا لوجود أبناء الجزائر في مقدِّمة الجيوش الفرنسيَّة في الحرب العالَميَّة، وفي ذات التَّاريخ الـ(٧) من مايو ١٩٤٥م عمَّتِ المَسيرات والمظاهرات مُدُن الجزائر وقُراها المطالِبة باستقلال الجزائر، فقامتْ فرنسا في اليوم التَّالي الـ(٨) مايو باستخدام قوَّاتها البَريَّة والبحريَّة والجويَّة لقمعِ هذه المَسيرات السِّلميَّة بشكلٍ عنيف في مجزرة تاريخيَّة بلغتْ (٤٥) ألف شهيد، وتقدِّرها بعض المصادر بَيْنَ (٥٠) و(٧٠) ألف شهيد.. هنا أدرَك أبناء الجزائر أنَّ طريق التَّحرير لا يأتي إلَّا عن طريق الكفاح المُسلَّح لِنَيْل الاستقلال، فبدأتِ الحركة الوطنيَّة وجبهة التَّحرير الوطني الجزائري بتنوير أبناء الشَّعب الجزائري بأنَّ الاستقلال لن يتحققَ بالمطالَبات السِّلميَّة، فبدأتِ المواجهات مع قوَّات الاحتلال الفرنسي واستمرَّتْ بَيْنَ فترةٍ وأخرى في حرب عصابات، إلَّا أنَّ اشتداد ضراوة المواجهات بدأ في الأوَّل من نوفمبر ١٩٥٤م الَّذي يُعَدُّ التَّاريخ الفعلي لاندلاع الثَّورة الجزائريَّة والتَّاريخ الرَّسمي لحرب الاستقلال الجزائريَّة فاستمرَّ ذلك النِّضال المُسلَّح وبدعمٍ عربي مدَّة (٩) سنوات كانتْ أغْلَب الهجمات تنطلق من الأرياف نَحْوَ العاصمة الجزائر، لذا عانتْ فرنسا من استنزاف كبير بسبب هذه الثَّورة، كما كان للدَّعم المصري بقيادة جمال عبدالنَّاصر دَوْر كبير في مسار حرب الاستقلال، حيثُ كان مكتب الحكومة الجزائريَّة المؤقتة في القاهرة، وانطلق مِنْها مُعْظم النَّشاطات السِّياسيَّة لدعمِ جبهة التَّحرير الوطني والحكومة المؤقتة، كما كان أغْلَب التَّسليح يأتي من مصر وأوَّلها كان تمويل صفقة سلاح بمليون جنيه، بالإضافة إلى (٧٥%) من الدَّعم العربي المقدَّم من جامعة الدول العربيَّة حتَّى أنَّ بن جوريون قال: على أصدقائنا المخلِصَين في باريس أن يقدروا أنَّ «عبدالنَّاصر» الَّذي يهدِّدنا في النَّقب وفي عُمق «إسرائيل» هو نَفْسه الَّذي يواجههم في الجزائر، فقامتْ حرب السّويس أو العدوان الثُّلاثي بعد تأميم عبدالنَّاصر قناة السّويس، وكان دعم مصر للجزائر السَّبب الحقيقي لمشاركة فرنسا في العدوان الثُّلاثي، ثمَّ انسحبتْ دوَل العدوان بقرار دولي بعد مقاوَمة شرسة من أبناء مُدُن القناة وتجييش الشَّعب المصري والعربي لمواجهة العدوان، وعادتْ شركة قناة السّويس شركة مساهمة مصريَّة فخصّص بداية ريعها لدعمِ الكفاح المُسلَّح لثورة الجزائر، كما كان للملك فيصل بن عبدالعزيز أيضًا دَوْر في تسجيل قضيَّة الجزائر في مجلس الأمن وتقديم دعم مالي للجزائر، بالإضافة إلى ما قدَّمته الدوَل العربيَّة الأخرى في مرحلة من أزهى مراحل التَّاريخ العربي الحديث نالت فيها جميع أقطار الوطن العربي الاستقلال، وما زالتْ آلة التَّحرر مستمرَّة، وسيأتي اليوم الَّذي يتحرر فيه كامل التُّراب العربي .

استكمالًا للنِّضال الجزائري اضطرَّ الفرنسيون إلى منح الجزائر حقَّ تقرير المصير عِندَما أعلنَ شارل ديجول في عام ١٩٥٩م أنَّ للجزائريِّين الحقَّ في تقرير المصير بعد عناء كبير واستنزاف تعرضتْ له فرنسا، لذا فقد تقرَّر موعد الاستفتاء على الاستقلال تاريخ الأوَّل من يوليو ١٩٦٢م، وتمَّ الاستفتاء في ذلك التَّاريخ لِتسجلَ نتائج الاستفتاء الغالبيَّة العظمى لصالح الاستقلال، فاعترفتْ فرنسا مباشرة بنتائج الاستفتاء برسالة وجَّهها شارل ديجول إلى عبدالرحمن فارس رئيس الهيئة التنفيذيَّة المؤقَّتة للجمهوريَّة الجزائريَّة واعترفت باستقلال الجزائر، فتمَّ اعتبار تاريخ الـ(٥) من يوليو ١٩٦٢م اليوم الوطني لاستعادة السِّيادة الوطنيَّة، وهو اليوم الَّذي سقطتْ فيه الجزائر بِيَدِ الاستعمار في عام ١٨٣٠م. لذا يحتفل الجزائريون والأحرار من أبناء الأُمَّة العربيَّة بهذا التَّاريخ الَّذي تمَّ فيه استقلال الجزائر، فنالتِ الجزائر العظيمة الاستقلال بعد كفاح قدَّمه أبناء الشَّعب الجزائري، وسبَق ذلك تمَّت كِتابة السَّلام الوطني الجزائري بتأليف الشَّاعر الجزائري مفدي زكريا عام ١٩٥٦م، وتمَّ إقراره الرَّسمي نشيدًا وطنيًّا للجزائر بعد التَّحرير ويقول في بدايته (قسمًا بالنَّازلات الماحقات) ثمَّ اتَّجه الشَّاعر مفدي زكريا إلى القاهرة في عام ١٩٦٣م لِيَقومَ الموسيقار المصري محمد فوزي بتلحينه وإهدائه إلى الشَّعب الجزائري، كما أدَّى الفنَّان عبدالحليم حافظ أغنية بعنوان الجزائر تتحدث عن الثَّورة الجزائريَّة، وقام المخرج المصري بإخراج فيلم يتحدث عن المناضلة الجزائريَّة جميلة بوحيرد وثورة الجزائر . إنَّ قصَّة النِّضال الجزائريَّة بما حملتْ من إرادة وعنفوان وكفاح مُسلَّح تُعَدُّ من أعظم قصص النِّضال العربي في هذا العصر كتبه أبناء الجزائر بدمائهم الزكيَّة في ذاكرة التَّاريخ العربي الحديث، وهي تقدِّم للأجيال العربيَّة وفي معركة الوعي أنَّ طريق التَّحرير والاستقلال لن يتحقق إلَّا بالمقاومة والكفاح، هكذا قدَّم العرب خلال التَّاريخ سجلًّا حافلًا بالنِّضال والتَّضحيات العظيمة فنالوا شرف الاستقلال، تحيَّة للجزائر العظيم بلد المليون ونصف المليون شهيد.

خميس بن عبيد القطيطي

[email protected]