السبت 12 يوليو 2025 م - 16 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : غزة: دم مسفوك وشهادة على عجز العالم

الأربعاء - 09 يوليو 2025 06:30 م

رأي الوطن

40

وسط صخَب العالَم وضجيج المصالح، ينزف الجرح الفلسطيني عميقًا بلا توقُّف، كأنَّه يذكِّر البَشَريَّة كُلَّ فجْرٍ بأنَّ العدالة تغيب متى شاءتِ الأهواء، وهنا لا نتحدث عن قِطاع غزَّة فقط.. ففي الضفَّة الغربيَّة المُحتلَّة، باتتِ القُرى تُقتحم تحت جنح اللَّيل والنَّهار، يُعتقل شبابها ويُهان شيوخها ويُجرَّد سكَّانها من بقايا أمان كانوا يظنُّونه خطًّا أحمر، وباتتْ حملات اقتلاع النَّاس من بيوتهم ممارسة ممنهجة، تتكامل مع آلة تعذيب جسدي ومعنوي لا تفرِّق بَيْنَ صغير وكبير.. وفي غزَّة لا يزال الجرح ينزف ويُذكِّر الإنسانيَّة بضميرها المفقود، فلم تَعُدِ السَّماء فضاءً للحلم، بل ساحة مفتوحة لصواريخ لا تعرف سوى أهداف مَدنيَّة، والشَّهادات المُوَثَّقة من منظَّمات دوليَّة كثيرة جدًّا، شهادات تحصي أنين الأُمَّهات تحت الرُّكام وصراخ الأطفال وهم يودِّعون آباءهم دُونَ وداعٍ حقيقي، كُلُّ بيت هناك صار شاهدًا على جريمة مفتوحة، جريمة لا تجد مَن يوقفها ولا مَن يقتصُّ لضحاياها، فتستمرُّ تحت مظلَّة تواطؤ دولي يكتفي ببيانات القلق ونداءات لا تتجاوز الحبر الَّذي تكتب به.

وتؤكِّد أرقام الشُّهداء الَّذين يسقطون كُلَّ ساعة أمامنا لِتقولَ إنَّ الحرب لم تَعُدْ حرب حدود ولا معارك عسكريَّة، لكنَّها إبادة مُوَثَّقة بشهادات الأحياء قَبل عدسات الصِّحافة، خلال يوميْنِ فقط امتدَّتْ آلة القتل الصُّهيونيَّة، لِتضيفَ سبعة عشر شهيدًا جديدًا إلى سجلٍّ يفيض بالأسماء الَّتي لا تجد مَن يحفظها سوى الأُمَّهات الثّكالى. فمِن مُخيَّم الشَّاطئ غرب مدينة غزَّة ارتقى ثمانية شهداء، بَيْنَهم طفلان لم يعرفا في عمرهما القصير سوى الخوف والتَّهجير وصدى الانفجارات، وفي خان يونس استهدف القصف خَيمة تجمع عائلات هجَّرتها الحرب لِيُضافَ سبعة شهداء آخرين بَيْنَهم ثلاثة أطفال، صاروا جسورًا نَحْوَ أرقام لم تَعُدْ تجد لها خانة في ذاكرة الحزن، فمنذُ السَّابع من أكتوبر 2023 وحتَّى اللَّحظة، تخطَّتْ حصيلة الشُّهداء (57,500) روح، أكثرهم نساء وأطفال، فيما لا يزال آلاف تحت الرُّكام بانتظار إنصاف لم يأتِ بعد.

الأُمم المُتَّحدة نَفْسها خرجتْ من صمتِها المعتاد، فمكتب تنسيق الشُّؤون الإنسانيَّة (أوتشا) لم يجدْ بُدًّا من الاعتراف بتدهور الأوضاع بشكلٍ متسارع يفوق كُلَّ تصوُّر، وتقاريره الميدانيَّة المعلَنة تؤكِّد أنَّ المدارس، الخيام، البيوت وحتَّى المستشفيات تحوَّلتْ إلى أهداف مفضَّلة للقصف اليومي، ما أنتج عشرات الشُّهداء والجرحى في كُلِّ رقعة من القِطاع، حتَّى سيَّارات الإسعاف توقَّفتْ إلَّا من محاولات خجولة، وشبكات المياه تكاد تنهار بالكامل وسط أزمة وقود وصلتْ إلى حافَّة الصِّفر، بَيْنَما تُواصل سُلطات الاحتلال عرقلة إدخال أيِّ شحنة جديدة رغم النِّداءات المستمرَّة، الأسوأ أنَّ مناطق النُّزوح الَّتي تقلصتْ مساحتها إلى أقلَّ من (15%) من مساحة غزَّة الأصليَّة باتتْ مُجزَّأة ومكشوفة وغير آمِنة بالمُطلق؛ لِتزدادَ المأساة تعقيدًا على آلاف النَّازحين الَّذين هجَّرهم القصف إلى العراء، ليواجهوا قدرهم دُونَ سقف أو حائط يقيهم الموت.

يُختتم المشهد بما رآه كارل سكاو، مدير العمليَّات في برنامج الأغذية العالَمي، الَّذي عادَ من زيارته الرَّابعة لغزَّة لِيعلنَ للعالَم أنَّ المأساة هنا لم تعرفْ مثيلًا من قَبل، قال ذلك من قلبِ شوارع مدمَّرة وقوافل عالقة مُنعتْ نتيجة قصف الاحتلال! ووصفَ سكاو صورة الجوع المنتشر، مؤكِّدًا أنَّ الحصار لم يَعُدْ حصارًا على الغذاء، لكنَّه شلَّ كُلَّ أدوات الإغاثة؛ ففِرق البرنامج تواجِه العطش، نقص الوقود، انقِطاع الاتِّصالات وحتَّى خطَر الموت في أيِّ لحظة، ومع كُلِّ هذا، يؤكِّد الرَّجُل أنَّ الحلَّ لا يكمن في شاحنة عابرة أو تصريح عابر، بل في هدنة حقيقيَّة تَقُود إلى سلام دائم يَضْمن حياة بكرامة لِمَن تبقَّى من أهل غزَّة.. وبَيْنَ كلمات سكاو ورائحة الرُّكام هناك مَن يزرع صمودًا عنيدًا؛ لِيظلَّ هذا الشَّعب يقاوم حتَّى حين يخذله العالَم، ويكتب للتَّاريخ أنَّ الدَّم المسفوك لا يذهب هباءً مهما طالتْ ليالي الظُّلم.