في زيارة تفقديَّة لمقاطعة شمال البلاد هذا الأُسبوع، شدَّد الرَّئيس الصِّيني شي جين بينج على أهميَّة تطوير «الاقتصاد الحقيقي» مؤكدًا على استمرار التَّطوُّر الصِّناعي والارتقاء به من خلال الابتكار التكنولوجي. المقصود بالاقتصاد الحقيقي هو القِطاعات الَّتي تسمَّى حاليًّا «تقليديَّة» كالصِّناعة والزِّراعة وغيرهما. المُثير في الأمْر أنَّ الصِّين، الَّتي شهدتْ ثورة صناعة منذُ ثمانينيَّات القرن الماضي، تتقدم بقوَّة في مجالات التَّطوير التكنولوجي من الصِّناعات الفضائيَّة إلى الذَّكاء الاصطناعي مرورًا بصناعات التَّحوُّل في مجال الطَّاقة. لكنَّ كُلَّ ذلك التَّطوُّر التكنولوجي، الَّذي أصبح يسبق الولايات المُتَّحدة في بعض جوانبه، إنَّما يسخر لتعزيز وتطوير «الاقتصاد الحقيقي». حتَّى التَّركيز على قِطاع الخدمات الماليَّة والسُّوق المالي ليسَتْ بقصد جعل التَّعاملات والمضاربات ركيزة اقتصاديَّة، إنَّما لتسهيل التَّمويل والائتمان لقِطاعات الاقتصاد الحقيقي. ولعلَّ تلك ميزة في النّموذج الصِّيني للتَّحوُّل الاقتصادي الَّذي بدأ مع دنج شياو بينج قَبل نَحْوَ نصف قرن.
الفارق بَيْنَ تطوير التكنولوجيا، حتَّى في مجالات الخيال الرَّقمي، لجعلها قِطاعًا اقتصاديًّا أساسيًّا في حدِّ ذاتها وبَيْنَ ذلك التَّطوير لخدمة الاقتصاد الحقيقي هو الأُسلوب الصِّيني في المرحلة الحاليَّة من التَّحوُّل الاقتصادي. يختلف ذلك عن ما يحدُث في أميركا مثلًا حيثُ التَّركيز على «اقتصاد الخيال» باعتباره القاطرة المحتملة للنُّمو الاقتصادي وتراكم الثَّروة. فمثلًا، نجد شركات الذَّكاء الاصطناعي الأميركية الكبرى «تحرق» عشرات، بل مئات المليارات الَّتي يُسهم بها مستثمرون مغامرون من أميركا ودوَل العالَم الأخرى على أمل أن تحققَ تطبيقات الذَّكاء الاصطناعي عائدات وأرباحًا مهولة في المستقبل. هذا التَّوَجُّه يراهن على أنَّ اقتصاد تطبيقات الذَّكاء الاصطناعي هو القِطاع الواعد، وتساعد الأسواق الماليَّة عَبْرَ تجارة ومضاربات الأسهم والسَّندات والأوراق الماليَّة الأخرى في تغذية هذا «الحريق» المالي. والقصد بالحرق هو أنَّ تلك الشَّركات الصَّاعدة تنفق المليارات دُونَ أيِّ عائد سوى ارتفاع قِيمة أسهمها في السُّوق. وهو ارتفاع «وهمي» لا يستند إلى قِيمة أُصول حقيقيَّة. حتَّى مراكز البيانات الكبرى الَّتي تبنيها تلك الشَّركات لا تختلف عن «مراكز تعدين» العملات المشفَّرة في مرحلة سابقة ولا تُعَد أصلًا عالي القِيمة في حدِّ ذاته وإنَّما تعتمد قِيمته على استخدامه في الاقتصاد الحقيقي.
في المقابل، وباستثمارات لا تتعدى الملايين، طوَّرت شركات صينيَّة تطبيقات ذكاء اصطناعي تضاهي تطبيقات الشَّركات الأميركية، بل وتتفوق عَلَيْها. ليس من باب المنافسة فقط في «اقتصاد الخيال» مع الغرب وإنَّما؛ لأنَّ الصِّينيِّين يطوِّرون التكنولوجيا لِتفيدَ في تنمية الاقتصاد الحقيقي وقِطاعاته. لذا، حين تضخَّمتْ فقَّاعة التكنولوجيا الماليَّة في الصِّين من قِبل شركات كبرى مثل «علي بابا» وغيرها تدخَّلتِ السُّلطات الصِّينيَّة وفرضتْ قيودًا تنظيميَّة وقواعد عمل حالتْ دُونَ زيادة التَّوَجُّه نَحْوَ الاقتصاد الخيالي على حساب الحقيقي. ثمَّ إنَّ الاستراتيجيَّة الصِّينيَّة للتَّطوُّر والتَّقدُّم التكنولوجي لا تعتمد على المغامرات، بل على تأسيس بنية أساسيَّة بَشَريَّة عَبْرَ تطوير الجامعات حتَّى أصبحتْ الصِّين تسجّل براءات اختراع سنويًّا في مجال الهندسة والتكنولوجيا أكثر من أميركا وأوروبا مُجتمعة. هذا الاستثمار البَشَري يرفد توظيف التكنولوجيا ومنتجات الاقتصاد الرَّقمي في كُلِّ نشاط الاقتصاد الحقيقي. حتَّى القِطاعات الَّتي تفوَّقتْ فيها الصِّين على الغرب مثل السِّيارات الكهربائيَّة ومستلزمات توليد الطَّاقة المستدامة من الشَّمس والرِّياح هي أيضًا رافد غير مباشر للاقتصاد الحقيقي ـ التَّقليدي. فالصِّين بنموِّها الصِّناعي الهائل أصبحتْ في وقت ما أكثر بلد يضرُّ بالمناخ من الانبعاثات الكربونيَّة، طبعًا إلى جانب أكبر اقتصاد في العالَم بأميركا وغيرها من البلدان الصِّناعيَّة الكبرى في الغرب. فجاء الاستثمار الصِّيني الهائل في توربينات الرِّياح وألواح الخلايا الضوئيَّة لِيقلِّلَ إنتاج الكهرباء من حرق الوقود والفحم وتقليل الانبعاثات الَّتي تنتج عن القِطاع الصِّناعي ورُبَّما تضرُّ أيضًا بالقِطاع الزِّراعي وغيره من قِطاعات الاقتصاد الحقيقي في الصِّين. أمَّا النَّتيجة الجانبيَّة فهي أنَّ الصِّين أصبحتْ مصدرًا مهمًّا لكُلِّ تلك التكنولوجيا المستخدمة للتَّحوُّل في مجال الطَّاقة بسبب كثافة إنتاجها ورخص أسعارها. وبالتَّالي حققتْ هدفًا آخر ضِمن قِطاعات الاقتصاد الحقيقي، التِّجارة، من تصدير تلك المنتجات التكنولوجيَّة. هناك جانب مُهمٌّ في هذا التَّوَجُّه الصِّيني يُمكِن أن يشكِّلَ تحدِّيًا للتَّوَجُّه الأميركي والغربي فيما يتعلق بالاقتصاد الخيالي القائم أساسًا على التَّطوُّر التكنولوجي. فالدوَل الغربيَّة تفرض قيودًا مشدَّدة على نقلِ التكنولوجيا، حتَّى في حالة توسيع أسواقها لِتستفيدَ من بيع منتجاتها تتعمد ألَّا يستفيدَ المستخدم النّهائي من نقل المعرفة. أمَّا الصِّين فإنَّها لا تفرض أيَّ قيود، بل على العكس يسهل على أيِّ مستخدم لمنتجاتها أن يَقُومَ بما تُسمَّى «الهندسة العكسيَّة» ويحصل على المعرفة التكنولوجيَّة مجانًا. ومن تأثير ذلك أنَّ المنافسة الصِّينيَّة في هذا المجال، خصوصًا في الدوَل النَّاميَّة والصَّاعدة، تبقَى قويَّة جدًّا. هذا بالإضافة إلى أنَّ سهولة نقل المعرفة التكنولوجيَّة ستجعل مئات المليارات الَّتي استثمرتها الشَّركات الأميركية والغربيَّة كأنَّها «تبخَّرتْ في الهواء» نتيجة صعوبة تحقيق عائدات وأرباح لمن ضخُّوها في الاقتصاد الخيالي الأميركي والغربي.
طبعًا، كُلُّ هذا يتعلق بالاقتصادات الكبرى والمتطوِّرة، أمَّا بقيَّة العالَم ففي الأغلب يقفون على الطَّرف المتلقِّي لِمَا ينتجه الاقتصاد الحقيقي والخيالي.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري