الأربعاء 16 يوليو 2025 م - 20 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : المتاحف الوطنية.. مرايا التاريخ وبذور الانتماء

الثلاثاء - 08 يوليو 2025 07:09 م

رأي الوطن

300

يؤدِّي المتحف الوطني دَوْرًا وطنيًّا وثقافيًّا يتخطَّى كونه مجرَّد قاعة تضمُّ أحجارًا قديمة أو معروضات تلتقط لها الصُّوَر، حيثُ يُعَدُّ واجهةً ثقافيَّة وإحدى الأدوات المُهِمَّة في غرس الهُوِيَّة الوطنيَّة. فهنا يكمن سرٌّ عميق يربط الماضي بعيون الجيل الحاضر، يحتوي داخل أروقته معروضات تنبض بحكايات الأجداد، وتتنفس الأرض الَّتي حملتْ هذا الإرث إلى أحفادها.. ومن هذا الفَهْم تولدُ فكرة ربط النَّاشئة بجذورهم عَبْرَ برامج حيَّة تفعل الذَّاكرة. ولعلَّ البرنامج الصَّيفي «صيفنا إرث وهُوِيَّة» الَّذي يقدِّمه مركز التَّعلُّم بالمتحف الوطني بدعم من (بي. بي. عُمان) مثال حي على ذلك وتأكيد على أنَّ الهُوِيَّة أكبر من قصاصة في كِتاب مدرسي، وأقوى من شعارات متداولة، فحين يرى الطِّفل كنز أجداده أمام عَيْنَيْه، يسمع حكاية الأثر من فَمِ مرشدٍ يؤمن بقِيمة ما يرويه، يتشكَّل داخله انتماء وطني فريد يربطه بأرضه، ويحميه من غُربة الأفكار، واستيراد هُوِيَّة لا تُناسبه، هنا تكمن وظيفة المتحف حين يخرج من صورته الجامدة ويصير مدرسةً صامدةً أمام تغيُّر الزَّمن. لقد صمِّم البرنامج الصَّيفي لِيناسبَ كُلَّ الفئات العمريَّة لأبنائنا، فهناك يُمكِن أنْ يجتمعَ في قاعة واحدة طفل في السَّادسة وفتاة في المرحلة الثَّانويَّة أو الدبلوم، وشاب يشقُّ طريقه في الجامعة. لقد فتَح (صيفنا إرث وهُوِيَّة) الباب لثلاث محطَّات عمريَّة، لكُلٍّ مِنْها احتياج مختلف في التَّلقِّي والفَهْم، فهناك أطفال بَيْنَ السَّادسة والحادية عشرة يبدؤون اكتشافهم الأوَّل لمعنى الأثَر، ثمَّ يكمل طلبة المدارس الطَّريق بأسئلة أوسع، ويواصل طلبة الجامعات رحلة الغوص الأعمق داخل الفكرة، كما يشمل حلقات فنيَّة وتفاعليَّة مصمَّمة لِتُمنحَ كُلُّ فئة مساحةً للتَّعبير والابتكار، وكُلُّ نشاط يولد من محتوى مقتنيات المتحف نَفْسها لِيبقَى الصَّدى متَّصلًا. بهذه الطَّريقة يتحول البرنامج إلى محرِّك حقيقي للفضول، يزرع في العقول بذورًا قد تتحول لاحقًا إلى شغفٍ يكتب فصولًا جديدة في حراسة التُّراث، وترسيخ الهُوِيَّة والانتماء. هذا البرنامج لا ينحصر داخل جدران في قلب مسقط. الخريطة تمتدُّ شمالًا حتَّى ولايات صحار ولوى وشناص وصحم والخابورة والسويق، لِيشاركَ فيه نَحْوُ (240) مستفيدًا من أبناء محافظة شمال الباطنة خلال أُسبوعٍ كاملٍ من الأنشطة، في الوقت نَفْسه تتواصَلُ الفعاليَّات من مقرِّ المتحف في العاصمة إلى ركن مركز التَّعلُّم في الموج مسقط، لِتستمرَّ الحلقات بَيْنَ طلبة المدارس وطلبة الجامعات وتصل إلى (260) مشاركًا آخر، حلقات تتنوع بَيْنَ التَّلوين وأسرار العمارة التَّقليديَّة وقصص الملاحة البحريَّة، لِتخرجَ الحكاية من إطارها الأكاديمي وتُصبحَ جزءًا من ذكرياتهم الصَّغيرة، فهذه الجغرافيا توسيع للرِّسالة وتأكيد على أنَّ الإرث ملك للنَّاس في كُلِّ شِبر من رُبوع الوطن، والوصول إِلَيْهم واجب. في قلبِ هذا العمل يقف مركز التَّعلُّم بالمتحف الوطني كنقطة التقاء الأفكار، فهناك تجهيزات تُضاهي معايير العالَم، وبرامج لطلاب المدارس والجامعات، وتفتح الأبواب للعائلات أيضًا، وتمنح فرصة للأشخاص ذوي الإعاقة ليكُونُوا شركاء في حفظ الحكايّة، وهناك تنفَّذ زيارات منظَّمة، وتُطلق حلقات أدب الطِّفل، وتتوالى مبادرات التَّعليم المستمر الَّتي تحافظ على الشَّغف، مهما تغيَّرتْ ظروف الحياة، وبهذا الوعي يتحول المتحف إلى بيت حيٍّ للمعرفة، يزرع في الزَّائر سؤالًا لا يغلقه جدار ولا يحبسه صندوق عرض. وحين تخرج الأجيال من قاعات المتحف حاملةً شغفًا جديدًا بحكاية بلدهم، يدرك كُلُّ مَن أسْهَم في هذه المبادرة أنَّ زرعَ الهُوِيَّة مشروع يطول عمره ما دام في القلب مكان يحرسه.