يأتي البرنامج الصَّيفي كإحدى المبادرات الوطنيَّة الرَّائدة الَّتي تسعى لاحتواء الشَّباب واحتضان أفكاره وبناء قدراته وتعزيز مهاراته ومبادراته وصقل مواهبه، وإيجاد بنية فكريَّة مؤسَّسيَّة ترعاه وتحفظ ودَّه وتقترب من نبضه، وتحافظ على خيوط التَّواصُل وجسور التَّفاعل وبواعث التَّجديد ونهضة الوعي والتَّفكير لدَيْهم بما يقيهم مساوئ الانحراف ويجنِّبهم الاستغلال السَّلبي غير المقبول لطاقاتهم وقدراتهم؛ فصقل مواهب الشَّباب، وبناء شخصيَّاتهم المتوازنة، وتعزيز مهاراتهم ومبادراتهم، لا يتحقق إلَّا من خلال تكاتف مؤسَّسي ومُجتمعي واعٍ، يرى في هذه المرحلة فرصة لإعداد جيلٍ واعٍ قادر على مواجهة تحدِّيات الحياة، والمساهمة بفاعليَّة في بناء الوطن. ورغم التَّحوُّلات الإيجابيَّة الَّتي شهدها البرنامج الصَّيفي في السَّنوات الأخيرة، إلَّا أنَّ الصورة المتكررة الملازمة للتَّنفيذ باتَ يشوبها بعض الغموض؛ إذ نجد أنَّ العديد من المؤسَّسات الحكوميَّة والأهليَّة تنفِّذ برامجها الصَّيفيَّة بشكلٍ مستقل، كُلٌّ وفْقَ توجُّهه الخاصِّ، ممَّا أدَّى إلى ظهور «مواسم صيفيَّة مُتعدِّدة» داخل موسم واحد، حيثُ تنفرد كُلُّ جهة بتنظيم صيفها، وتمنحه اسمًا، وشعارًا، وفعاليَّات قد تتشابه أو تتكرر دُونَ تنسيق أو تكامل يُذكر. وهذا التَّعدُّد قد يبدو في ظاهره ثراءً للبرنامج، لكنَّه في جوهره يؤدي إلى تشتُّت الجهود، وإهدار الموارد، وتكرار المبادرات دُونَ تحقيق أثر حقيقي في واقع الشَّباب؛ حيثُ تبرز الحاجة إلى تحوُّلات جادَّة تنقل البرنامج الصَّيفي إلى مرحلة المنافسة وصناعة الأثر من خلال تمكين العلاقة بَيْنَ هذا الكمِّ الكبير من البرامج والنَّتائج الفعليَّة المحقَّقة؛ ومدى استفادة الشَّباب في مختلف الأعمار من هذه المبادرات المُتعدِّدة، ومستوى التَّنسيق بَيْنَ المؤسَّسات المختلفة، وأثَر ذلك على جودة المخرجات. عَلَيْه، تطرح رؤية التَّكامل المنشودة في نواتج البرنامج الصَّيفي أهميَّة وجود إطار عمل واضح للبرنامج الصَّيفي؛ باعتباره مشروعًا وطنيًّا يستدعي توافر صيغة واضحة لعمله ومنهجيَّات مقنَّنة لأدائه، ووجود إدارة عُليا لإدارة البرنامج الصَّيفي، توظَّف فيه كُلُّ المبادرات والمشاركات والدَّعم المقدَّم من القِطاع الخاصِّ ومن مؤسَّسات الدَّولة المختلفة، في ظلِّ استراتيجيَّة وطنيَّة للبرنامج الصَّيفي الشَّامل تتعامل مع تنوُّع المجالات والمحاور وأجندة العمل بشكلٍ متوازن، تراعي مختلف المجالات الَّتي يحتاجها الشَّباب، بدءًا من القِيَم الدينيَّة والأخلاقيَّة، مرورًا بالمجالات الفكريَّة والثَّقافيَّة، ووصولًا إلى الجوانب الرِّياضيَّة والتقنيَّة والمهنيَّة. بحيثُ تُصمم البرامج بشكلٍ متوازن يعكس احتياجات الشَّباب وتطلُّعاتهم، ويرتبط بواقعهم الاجتماعي والاقتصادي والتَّعليمي وغيرها، لِتشكِّلَ مسار عمل يستهدف إعادة الإنتاج الفكري والمهني لثقافة الشَّباب حَوْلَ قضاياه اليوميَّة وقناعاته الشَّخصيَّة، وإطار مقنَّن لعمل وطني مشترك تقاس نتائجه وفْقَ أدوات وآليَّات ومؤشِّرات إنجاز وشروط تناسب والمتغيِّرات الحاصلة، تأخذ في الاعتبار نتائج الرَّصد والإحصائيَّات والتَّقارير الدَّوْريَّة الوطنيَّة والعالَميَّة حَوْلَ التَّنمية البَشَريَّة وبناء الإنسان وبما تخرج به نتائج الاستقصاء واللِّقاءات والتَّقارير الأمنيَّة والفكريَّة والثَّقافيَّة حَوْلَ واقع الشَّباب والسُّلوك العامِّ والمنجز المتحقّق في ذلك. إنَّ طبيعة احتياجات الشَّباب التَّرويحيَّة والمهاريَّة وإعداده للتَّعامل مع المواقف الحياتيَّة وبناء قدراته للتَّكيُّف معها، وتوجيهه إلى الاستثمار في الإجازة الصَّيفيَّة عَبْرَ استغلال وقت الفراغ وبناء قدراته على إدارة مشروعه القادم، والإفصاح عن مواهبه، وزيادة فرص التَّدريب على رأس العمل، وتكوين الشَّراكات والاطِّلاع على التَّجارب، والوقوف على الممارسة المهنيَّة في المصانع والشَّركات؛ تفرض مسارات تحوُّل يصنعها البرنامج الصَّيفي ويؤسِّسها في طريقة الممارسة، لِيشكِّلَ بمثابة حاضنات ابتكاريَّة تستوعب الشَّباب، وإبراز مواهبه الطلابيَّة بالشَّكل المأمول، وتوسيع خيارات المستقبليَّة وملامح الطُّموح وشغف الرِّيادة والتَّجديد لدَيْهم في تمازج أهداف البرنامج وتناغم فلسفة عمله وتكامل الخبرات لبناء صَيف مُتعدِّد المواهب، متنوِّع المهارات مستوعب للقدرات، واعدٍ بالكثير من المنجزات. على أنَّ حوكمة البرنامج الصَّيفي بما يضْمَن توسيع الأُطر والاستراتيجيَّات والبنية الفكريَّة والمعرفيَّة والإبقاء على مسارات الإنجاز المتحقِّقة من البرنامج الصَّيفي في مستوى القوَّة والكفاءة والإنتاجيَّة وصناعة الأثر، وتحقيق المنافسة لا يتحقق إلَّا من خلال جهد مُجتمعي واسع النّطاق، متناغم الأفكار والتوجُّهات، مُتعدِّد الأدوات والأساليب والمنهجيَّات، ورصد مستمر لمسارات التَّكامل والانسجام والتَّوافق الحاصل بَيْنَ مؤسَّسات المُجتمع الأهلي والخاصَّة مع الحكومة، بما من شأنه أن يُسهم في بناء صيغة وطنيَّة تُعَبِّر عن إرادة مُجتمعيَّة حالمة في رصد نواتج التَّحوُّل النَّوعي المأمولة في البرامج الصَّيفيَّة المنتشرة في مختلف محافظات سلطنة عُمان في إطار تأكيد مستوى الشَّراكة ووحدة الإنجاز المؤسَّسي وكفاءة الأدوات المُعَبِّرَة عَنْها في رسم صورة مكبّرة لنموذج البرنامج الصَّيفي، سعيًا نَحْوَ إيجاد برنامج موحَّد تحت مُسمَّى «صَيف عُمان» تندرج فيه كُلُّ المؤسَّسات، لِتنسجمَ البنى الهيكليَّة والتَّشريعيَّة والتَّنظيميَّة والمرجعيَّة للبرنامج مع وحدة المبنى وكفاءة المحتوى وتعدُّد الخيارات والمناشط وتكاملها. ما يؤكِّد أهميَّة تناول جملة الموجِّهات الآتية:
ـ تنويع مسارات البرنامج بما يراعي الميول الفرديَّة والمهنيَّة للملتحقين، ويُعزِّز من فرص اكتشاف الذَّات.
ـ التَّركيز على التَّعلُّم الذَّاتي، وممارسة السُّلوك الإيجابي من خلال أنشطة اختياريَّة محفِّزة، في بيئة تعليميَّة مَرِنة.
ـ تأصيل الثَّقافة الوقائيَّة، عَبْرَ تدريب الشَّباب على التَّعامل مع التَّحدِّيات اليوميَّة مِثل الإشاعات، الفكر المتطرِّف، والمحتوى الرَّقمي المضلِّل، والأُسلوب الحكيم في التَّعامل مع المعلومة من مصادرها الرَّسميَّة.
ـ تفعيل دَوْر الأُسرة والمُجتمع المحلِّي في دعم البرنامج وتوجيه المشاركين، وإبراز دَوْر الأُسرة في متابعة الأبناء خلال الصَّيف.
ـ تعزيز القِيَم الوطنيَّة، مثل الحوار والتَّسامح والمواطنة، والعمل التَّطوُّعي وبناء روح الفريق والمشاركة في البناء والتَّطوير المنهجي في إطار ضمن محتوى تثقيفي وتربوي هادف.
ـ التَّسويق الإلكتروني وتعظيم الاستفادة من التقنيَّات المتقدِّمة والذَّكاء الاصطناعي ومنصَّات التَّواصُل الاجتماعي لبناء محتوى معرفي وتوعوي مُتجدِّد وفعَّال.
ـ تطبيقات عمليَّة ومواقف محاكاة، من حيثُ تعريض المستهدفين إلى مواقف مماثلة وتجريبهم في مواقف حياتيَّة خارجيَّة متنوِّعة وتأكيد مسؤوليَّتهم الاجتماعيَّة ودَوْرهم الرِّيادي في البيئة الواقعيَّة والافتراضيَّة.
ـ توجيه الاهتمام بتمكين الشَّباب العُماني من مخرجات التَّعليم، وروَّاد الأعمال والمؤسَّسات الصَّغيرة والمُتوسِّطة في تعزيز حضورهم الاقتصادي، وإثبات موقع لهم في الإدارة الماليَّة والمشاريع الاحترافيَّة المنتجة وبرامج الادخار والتَّعامل مع الأسْهُم وغيرها بما يُسهم في إعادة إنتاجه اقتصاديًّا.. وممارسة الأنشطة الاقتصاديَّة في فعاليَّات وبرامج خريف ظفار.
أخيرًا، ورغم القناعة بأنَّ البرنامج الصَّيفي ليس حلًّا سحريًّا لجميع تحدِّيات التَّربية الأُسريَّة والسُّلوك والوعي لدى الشَّباب، إلَّا أنَّه يُشكِّل في هذه المساحة من الفراغ الَّتي يعيشها بعض الشَّباب في وقت الإجازة الصَّيفيَّة وسيلة مهمَّة للتَّقليل من حجم المُشْكلات الَّتي قد تظهر خلال أوقات الفراغ، وهو كذلك فرصة لإعداد الشَّباب ليكُونُوا أكثر وعيًّا، وأكثر انخراطًا في قضايا مُجتمعهم، وأكثر قدرة على التَّعامل مع تحوُّلات الحياة المعاصرة، لذلك كان من الأهميَّة وجود رصد وتقييم منهجي لأداء البرنامج في كُلِّ مراحل عمله، وتوفير أدوات استطلاع وقياس رأي المستفيدين والمستهدفين من البرنامج وفْقَ موجِّهات وأُطر مقنَّنة، بما يُتيح تطوير البرنامج بشكلٍ دَوْري، وتكييفه مع التَّغيُّرات المستجدَّة. فإنَّ التَّطلُّعات المُجتمعيَّة والطُّموحات الأُسريَّة من البرنامج الصَّيفي ومُكوِّناته فرصة لصناعة الأثر والتَّفكير خارج الصُّندوق لبناء نموذج وطني مُلهِم تتناغم وتتكامل منظومات العمل الوطني في سَبر أعماقه ورسم معالِمه وبناء محتواه لتكوينِ نماذج مضيئة من أبناء الوطن لخدمة الوطن، وكم سيكُونُ لمستهدفات هذا البرنامج من أهميَّة إن وظِّفتْ بالشَّكل السَّليم وخُطِّط لها في إطار مستقبلي، ووُضِعتْ لها أجندة عمل واضحة وخطط دقيقة، وأُعطي الشَّباب فيها مسؤوليَّة تعامله وإدارة ذاته ومسؤوليَّة القيام بمسؤوليَّاته ومهام عمله، وتجريب مبادراته، مرحلة مهمَّة تُعزِّز من وجود شراكة حقيقيَّة وفاعلة للقِطاع الخاصِّ، الَّذي يمتلك الخبرة والقدرات الفنيَّة واللازمة لدعم البرنامج الصَّيفي، بحيثُ يتعدَّى دَوْره التَّمويلي، لِيشملَ توفير التَّدريب، واستضافة الطَّلبة في مواقع العمل، وتنظيم الزِّيارات الميدانيَّة، والمساهمة في بناء المهارات العمليَّة المرتبطة بسُوق العمل، في قِطاعات حيويَّة مثل: الطَّاقة المُتجدِّدة واللوجستيَّات وريادة الأعمال والزِّراعة والتِّجارة؛ ويبقَى تأثيره بما يعكسه من فرص التَّكامل المؤسَّسي، ووضوح الأهداف، وقوَّة التَّأثير في سُلوك الشَّباب وتفكيرهم. وفْقَ إرادة مُجتمعيَّة صادقة، ورؤيّة وطنيَّة شاملة، تؤمن بأنَّ «صيف عُمان» ليس مجرَّد إشغال فراغ الطَّلبة والشَّباب، بل مساحة أمان لصناعة التَّغيير وإدارة القدرة الوطنيَّة وتوجيه الاستثمار في الرَّأسمال الاجتماعي البَشَري المواطن لبناء مستقبل عُمان المُشرِق.
د.رجب بن علي العويسي