في كُلِّ مرَّة يتقدَّم فيها الطَّرف الوكيل (العدوُّ الصُّهيوني)، ثمَّ من ورائه الطَّرف الأصيل (الحليف الأميركي ـ الغربي) ضدَّ دَولة من دوَل هذ الإقليم، تتَّضح الرُّؤية بصورة أجْلَى بالنِّسبة للرَّائي إلى تطوُّرات الأحداث بأنَّ الهدف من استخدام القوَّة العسكريَّة الخشنة أو القوَّة النَّاعمة هو إزالة أيِّ مُهدِّد للحالة الاستعماريَّة الَّتي تعيشُها دوَل هذا الإقليم. ومؤدَّى هذه الحقيقة أنَّ التَّهديد يبدأ من تهديد وجود كيان الاحتلال الصُّهيوني؛ لكونه القاعدة العسكريَّة الضَّخمة والمتقدِّمة لحماية الاستعمار الإمبريالي الأميركي ـ الغربي، وعَلَيْه فإنَّه لا قِيمة لَدَمِ الأطفال والنِّساء وكبار السِّن المُراق ظُلمًا وعُدوانًا، ولا قِيمة لكُلِّ الشَّعارات الرنَّانة الَّتي يتشدَّق بها الغرب الإمبريالي الاستعماري بشأن حقوق الإنسان والحُريَّات إلَّا عِندَ رؤيته أنَّ مصالحه الاستعماريَّة في خطر أو تراجع، أو عِندَ رغبته في توسيع هذه المصالح. والحالة الَّتي يعيشها الشَّعب الفلسطيني اليوم (الأطفال والنِّساء وكبار السِّن خصوصًا) لا تختلف عن الحالة الَّتي عاشها ملايين الأطفال في العراق؛ لأنَّ هناك ما هو أكبر من قِيمة الدَّم والحياة لهؤلاء الأطفال، وقَدْ أكَّدتْ ذلك بكُلِّ صراحة ووقاحة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجيَّة الأميركيَّة الأسبق خلال مقابلة على برنامج (60 دقيقة). ناقشتِ الصحفيَّة ليزلي شتال مع أولبرايت الَّتي كانتْ سفيرة أميركا لدَى الأُمم المُتَّحدة آنذاك كيف كان العراق يُعاني من العقوبات المفروضة عَلَيْه في أعقاب حرب الخليج الثَّانية عام 1991 وغزو الكويت في أغسطس عام 1990. وقالتْ شتال «سمعنا أنَّ نصف مليون طفل عراقي ماتوا، وهذا عدد أطفال أكثر من الَّذين ماتوا في هيروشيما، هل الثَّمن يستحق؟» وأجابتْ أولبرايت قائلةً «أعتقدُ أنَّ ذلك خيار صعب جدًّا، ولكن نعتقدُ أنَّ الثَّمن يستحق ذلك». ومع إعلان «نتن ياهو» رئيس حكومة الاحتلال الصُّهيوني عن إعادة رسم ما يُسمَّى خريطة الشَّرق الأوسط (أي سايكس ـ بيكو ثانية) بدءًا من الضفَّة الغربيَّة وقِطاع غزَّة إلى لبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن وغيرها، ثمَّ إعلان حليفه دونالد ترامب رئيس الولايات المُتَّحدة عن مُخطَّطاته الكُبرى الَّتي تستهدف قِطاع غزَّة، فإنَّ الدَّمَ الفلسطيني هُنَا أيضًا لا قِيمة له لدَى هؤلاء الوحوش الكاسرة، والمستعمِرة الَّتي تسعَى إلى الجَثْم على صدرِ هذا الإقليم إلى الأبد، وطرد كُلِّ منافِس يحاول أنْ يأخذَ نصيبه من كعكة هذا الإقليم الغنيِّ بالموارد الهائلة الَّتي تجعل من هذا الغرب الاستعماري القوَّة الاقتصاديَّة والعسكريَّة المُهَيمنة على العالَم. على الجانب الصُّهيوني، لا يختلف الأمْر كثيرًا، فتوظيف الدَّم الصُّهيوني لا يكُونُ إلَّا حين يخدم المشروع الاستعماري وبقاءه، وتصفية القضيَّة الفلسطينيَّة، ويتَّضح ذلك عَبْرَ إدارة الظَّهر لكُلِّ المَسيرات والمظاهرات المُطالِبة بوقفِ الحرب والإفراج عن الأسرَى لدَى المقاوَمة الفلسطينيَّة؛ لأنَّ وقفَ الحرب والإفراج عن الأسرَى يتعارض مع المشروع الاستعماري الأكبر المتمثِّل في إعادة رسم ما يُسمَّى خريطة الشَّرق الأوسط (سايكس ـ بيكو الثَّانية) الَّتي تمتدُّ فيها المستعمرة الكُبرى «إسرائيل» من النِّيل إلى الفُرات، كما يتعارض مع مُخطَّط إزالة مُعوِّقات تَحقُّق ذلك، المتمثِّل في تحطيم ما تبقَّى من القوى في الإقليم كالجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة وباكستان ومصر والجزائر وهلمَّ جرَّا. لذلك، يُمكِن تصوُّر أنْ يُبادَ قِطاع غزَّة عن بكرة أبِيه، وتُسفكَ دماء ملايين الأطفال والنِّساء وكبار السِّن؛ لأنَّ الثَّمن في الفِكر الاستعماري الإمبريالي يستحق. والحديث عن هدنة ووقفِ إطلاقِ النَّار في غزَّة لِمُدَّة ستِّين يومًا، ما هو إلَّا لإعطاء جيش الاحتلال الصُّهيوني المُنهَك فرصةً لاستعادة أنفاسه، وجمع قواه المُنهارة، واستعادة مَن تبقَّى من الأسرَى؛ لِتبدأَ آلة الحرب الصُّهيوـ أميركيَّة بطحنِ غزَّة بمن فيها، وكذلك تحريك آلة الحرب مُجدَّدًا إلى اليمن وإيران ولبنان وغيرها. فالمعسكر الاستعماري الغربي الإمبريالي بالقيادة الصُّهيوـ أميركيَّة يرَى أنَّ هذا الوقت هو الفرصة الذَّهبيَّة لإنجاز المشروع الاستعماري وتأمين بقائه واستمراره.
خميس بن حبيب التوبي